الأحد 2021/06/06

آخر تحديث: 08:05 (بيروت)

الجانب المظلم من الحلم الأميركي

الأحد 2021/06/06
increase حجم الخط decrease
قبل الحرب الأهلية الأميركية، كان لدى الولايات المتحدة شبكة سرّية من الطرق والبيوت الآمنة أنشئت خلال الفترة من أوائل إلى منتصف القرن التاسع عشر، استخدمها الأميركيون-الأفارقة المستعبدون للهروب شمالاً إلى الولايات الحُرّة وكندا. أُطلق على شبكة التهريب السرية هذه اسم "السكك الحديدية تحت الأرض". كانت الشبكة غير واضحة عن قصد، حيث كان الداعمون والمتعاونون في كثير من الأحيان لا يعرفون سوى عدد قليل من المعلومات عن غيرهم من المتعاطفين ودعاة إلغاء الرقّ المبعثرين على طول الشبكة الممتدة لمئات الأميال. لم تكن سككاً حديدية بالمعنى الحرفي، لكنها سهَّلت طريق الفرار نحو الحرّية، وأنقذت حياة الآلاف. يشير أحد التقديرات إلى أنه بحلول عام 1850، هرب 100 ألف مستعبد عبر "السكك الحديدية". وُثّقت العديد من قصص الهاربين في كتاب عام 1872 بعنوان "سجّلات السكك الحديدية تحت الأرض" لوليام ستيل، أحد المدافعين عن إلغاء قانون الرقّ.



قلة من الكتب الأدبية التي تناولت تاريخ العبودية والعنصرية في الولايات المتحدة حازت انتشاراً عالمياً في السنوات الأخيرة مثلما رواية كولسون وايتهيد "السكك الحديدية تحت الأرض" (تُرجمت إلى العربية قبل عامين عن دار "روايات" تحت عنوان "السكك الحديدية السرّية")، الرواية السادسة للكاتب الأميركي من أصل أفريقي، والمنشورة في عام 2016، والفائزة بجائزة بوليتزر وجائزة الكتاب الوطني (أهم جائزتين أدبيتين في الولايات المتحدة). في روايته، يأخذ وايتهيد التعبير المجازي محولاً إياه قطار أنفاق فعلي يربط بين ولايات مختلفة تحت الأرض، مبتكراً تاريخاً بديلاً مبنياً بشكل فضفاض على التجارب التقليدية للعبيد، يمزج فيه بين التاريخي والواقعي والفانتازي. فيه، تهرب مستعبَدة شابة من مزرعة قطن في ولاية جورجيا أثناء أربعينيات القرن التاسع عشر لتجد نفسها داخل نظام للأنفاق السرّية يأخذها في رحلتها الطويلة نحو الحرية عبر نصف الولايات المتحدة وتواجه العديد من الأشخاص على طول الطريق. مع كل خروج لكورا على الجانب الآخر من نفق القطار، ينتظرها عالم جديد وسيناريوهات سرعان ما يحتلّها الرعب. تلتقط الرواية "التروما" الجماعية للسكان السود في أميركا، في صورٍ بليغة وكاشفة ومزعجة.


أصابت رواية وايتهيد عصباً أميركياً حسّاساً وحصلت على جائزة بوليتزر لعام 2017. في  الوقت نفسه تقريباً، قدَّم المخرج باري جينكينز قصة نضوج رجل مثلي من أصل أفريقي في فيلمه "مونلايت"، والذي حصد - على نحو مفاجئ -  جائزة أوسكار أفضل فيلم في العام ذاته. قبل ذلك، قرأ جينكينز الرواية وأُعجب بها، ثم اتصل بوايتهيد للحديث عن نيّته تحويل الرواية إلى الشاشة، وكان شرطه الوحيد ألا يتقيّد بفكرة حشر كل شيء في ساعتين؛ وإنما سيتطلّب الأمر سلسلة تلفزيونية لإنصاف الرواية والمواضيع التي تستكشفها.

أملَ كثيرون في أن يمثّل الجمع بين هذين الصوتين المهمّين للثقافة الأميركية-الأفريقية المعاصرة علامةً بارزة، تغذّي الخطّاب المعني بحقوق السود وإرث العنصرية والخدعة الأميركية بشأن المساواة بين المواطنين منذ إعلان الاستقلال. بعد خمس سنوات، يثمر التعاون بين الإثنين سلسلة تلفزيونية قصيرة تملك بالفعل ما يلزم للوفاء بالتوقعات الكبيرة. تلعب الممثلة الجنوب أفريقية ثيسو مبيدو دور كورا، وهي مستعبدة في مزرعة قطن بجورجيا يقنعها حبيبها سيزار (آرون بيير) بالهروب معه. عندما يصلا إلى مأوى مُهرِّب أبيض، يقودهما عبر فتحة أرضية إلى نفق قطارات تحت الأرض. "مَن بنى كل هذا؟"، يسأل سيزار عندما يرى قضبان القطار. فيأتيه الردّ: "مَن يبني أي شيء في هذا البلد؟". هذه الجملة الاستفهامية الاستنكارية، على إيجازها، تحتوي الكثير من الاستغلال والغضب والفخر الذي تستمد منه السلسلة قوتها.

السلسلة مقسّمة إلى عشرة فصول/حلقات، تنتظم محطات على طريقٍ شاقة للحرية، فرحها مؤقت ومختلس فيما مآسيها مديدة وظليلة. من جورجيا إلى كارولينا الجنوبية، حيث يُفترض أن البيض التقدميين يريدون إبادة السكان السود من خلال تجارب تحسين النسل على العبيد السابقين، وصولاً إلى نظام شبيه بالنازية في كارولينا الشمالية؛ تكشف السلسلة النقابَ عن تاريخ بديل يبدو معقولاً بشكل مخيف. ملحمة غنية بالتفاصيل تجسّد الواقعية السحرية للأصل الأدبي في صور مذهلة، لا تفارق الواقع إنما تتجاوزه وتزيل التباسه. ومثل الرواية، لا يتوانى جينكينز عن التصوير القاسي للعنف. في الحلقة الأولى، مثلاً، يُجلد رجل قُبض عليه من قبل صياد الرقيق ريدجواي (جويل إدغرتون) أثناء هروبه، ثم يُحرق حيّاً في محاكمة مشهودة. يصوّر جينكينز الأسس الفاسدة التي قامت عليها "الأمة الأميركية العظيمة"، ويُظهر الحلم الأميركي ككابوس، معايناً الجانب المظلم للأسطورة الوطنية عن الحرية والاستكشاف وروح الريادة.

تحمل السلسة طابع جينكينز المميّز لعمله السينمائي، بأجواء وأمزجة مشيّدة بعناية، ومشاهد تستدعي لوحات معيّنة، وكاميرا دائمة الحركة في اللحظات الفاصلة، ولقطات طويلة يركّز فيها على وجوه الشخصيات. في هذا الصدد، تختلف هذه السلسلة اختلافاً جذرياً عما هو شائع حالياً في الإنتاجات التلفزيونية من حيث الصور المتحركة المستساغة والمسلّية. بمساعدة متعاونيه الدائمين، المصور السينمائي جيمس لاكستون والملحن نيكولاس بريتل، يفتح جينكينز الحياة الداخلية لشخصياته المركزية، سواء كانت كورا أو أرنولد ريدجواي، صائد العبيد الداهية الذي يلاحقها. كورا شاهدة على رعب لا يُوصف، وفي سعيها للتحرّر تحاول مراوغة تعريف نفسها بناءً على هذه الصدمات. حياتها الداخلية، المجلوبة إلى الشاشة بفضل تكوينات غنائية وبصيرة، تضيف خيوطاً من الأمل والحب، أولاً لرفيقها في الرحلة، سيزار، ولاحقاً رويال (ويليام جاكسون هاربر)، وهو رجل حرّ قام بتغيير مسارها المحتوم بالعودة إلى العبودية.

لطالما كان جينكينز مخرجاً بأسلوب ملموس ومميّز يشعّر الجمهور بشكل بديهي بما تعيشه شخصياته. هنا، يتراكم هذا التركيز الفردي، بحيث يملك القمع المؤسسي للعبودية خصوصية مدمرة. والنتيجة؟ سلسلة شاهقة ترفع النوع التلفزيوني إلى مستوى جديد، وملحمة غنية بالإنساني والتفكّر في نوازع البشر وعواقب عمائهم واختياراتهم، داخل حكاية روائية في نطاق تاريخي وحشي ومرعب.

تتعامل السلسلة مع الألم والصدمات التي عاني منها الأميركيون من أصل أفريقي، وإنما أيضاً مع مقاومتهم وإرادتهم للنجاة والبقاء على قيد الحياة. وبقدر سذاجة وقصور مثل هذا القول، فإن "السكك الحديدية" عمل متأصّل ونابع من "وعي أسود"، إن جاز التعبير، وقد قورن تأثيرها - مسبقاً قبل عرضها - بسلسلة "جذور" من العام 1977، والتي من خلالها واجه جمهور تلفزيوني أميركي عريض يشمل جميع المجموعات الديموغرافية، العبوديةَ لأول مرة. يذهب جينكينز إلى أبعد من ذلك، حيث يستحضر، تقريباً مثلما في طقس لطرد الأرواح الشريرة، العنصرية البنيوية العميقة الجذور للولايات المتحدة ومسؤولية البيض أصحاب الامتيازات الذين استفادوا من الاستغلال والتمييز لعقود، وباستثناءات قليلة، لم يتسامحوا ضمنياً مع هذا الظلم فحسب، بل كانوا مشاركين فاعلين فيه.

لا يقتصر حفر السلسلة على التاريخي والقديم، بل تربط ما ترويه بمعاينة الحاضر واللحظة الأميركية الراهنة، بحوادث قتل الشرطة للسود وانتفاضة "حياة السود مهمة". التفاتة الربط يؤكَّد عليها في نهاية كل حلقة، حين تصمت الموسيقى التصويرية المتأرجحة بين أصوات الطبيعة والوتريات؛ لتبدأ أغنية هيب هوب مُعبّرة بتوقيع "ذا فارسايد" أو "أوتكاست" أو دونالد غلوفر)، تُعيد التذكير بما هو أساسي وبما لم يُنجز: بربرية مُلّاك العبيد في المجتمع الحديث والليبرالي في أميركا الشمالية آنذاك هي نواة العنصرية القائمة حالياً في الولايات المتحدة الأميركية.

حتى وإن بدأت "السكك الحديدية" حكايتها من أزمنة ماضية ومتخيّلة، لكنها تصبّ في الأخير في زمننا المقيم وجروحه المفتوحة.


(*) "The Underground Railroad"، من تأليف وإخراج باري جينكينز، 10 حلقات/ساعة. تُعرض حالياً في أمازون برايم فيديو.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها