السبت 2021/06/05

آخر تحديث: 13:02 (بيروت)

"لنا ذاكرتنا" لرامي فرح...التجريب في حكاية سورية لا تنتهي

السبت 2021/06/05
increase حجم الخط decrease
شاهد الجمهور حول العالم أفلاماً وثائقية سورية مهمة. فطيلة العقد الماضي، وهو عمر الثورة السورية، أنتجت المختبرات الشخصية للعديد من المخرجين، قصصاً عن أبطال التجربة، والمسارات التي خاضوها، والمصائر التي انتهوا إليها، فكانت كناية عن القصة السورية كلها، بآلامها، وكوارثها.

الملمح الأهم في عملية صناعة الأفلام هذه، يأتي من أنها تنطلق من تجربة حارة، لم تنته بعد، ما يجعل عملية الإنتاج وتلقيه، أشبه بالفعل المسرحي. فإعادة تقديم النصوص على الخشبة، لا يحظى بالتفاعل الدائم، رغم أن حكايته شبه معروفة، للجمهور، إلا لكونه يحمل وفي كل مرة رؤية جديدة ومعالجة مختلفة له، يبحث فيها المشاهد عن الإضافات الصغيرة التي يشتغل عليها صانع العمل، فيتولد المعنى الجديد من تراكمها.

الحكايات في الوثائقيات، كما في المسرح، شبه مكتملة، بدوائر مغلقة، تجذب المشاهد، فيعيش الاندماج مع شخصياتها، بإيهام كامل، وبالمعنى المسرحي الأرسطي، حيث يرى في المشاهد ولقطات الأفلام المصورة واقعياً بأيدي الناشطين/المواطنين الصحافيين وغيرهم، جزءاً من حياته، التي عاشها في ظروف مشابهة، وفي أمكنة سورية أخرى. وضمن هذا المسار، ستروي كل الأفلام، قطعاً من اللوحة الكبيرة التي ترسم ما جرى، وسيرى الجمهور حكاياته الخاصة تتكرر في كل القطع.

التورط في النظر إلى اللوحة هذه، ومع توافر مئات آلاف الأفلام مما صوّره ناشطون ومواطنون صحافيون، وتكدسها في "الهاردات" المهربة من سوريا لتكون أرشيفاً لتفاصيل ما جرى في المناطق التي منع النظام دخول الصحافة العربية والعالمية إليها.. كل هذا يضع المرء في مأزق قوامه ضرورة أن يتم تحويل ما يتوفر من rushes إلى مادة قابلة للمشاهدة، وللتداول في سياق عرض السردية الثورية، في مقابل سردية المؤامرة الكونية والعصابات الإرهابية التي حرص النظام ومنذ البداية على تكريسها.

حدث الأمر في غير مرة، أن يحصل مخرج على أرشيف أحد الناشطين، فيصنع فيلماً من محتوياته، فتؤدي العملية إلى صناعة أفلام مهمة في سياقها، والتجارب المضيئة في هذا المسار تجعل المتابعين يغضون النظر عن قضايا أخلاقية تمت إثارتها في بعض الأحيان، عن الحدود التي تفصل بين حقوق أصحاب الأرشيف وبين حقوق المنتج والمخرج، والتي كان عدم احترامها يؤدي إلى فضائح أخلاقية، واتهامات من نوع الاستيلاء على جهود الجنود المجهولين الذين أوصلوا القضية السورية مصورة إلى العالم.

وقد يؤدي الاحترام الشديد لحقوق هؤلاء، إلى التفكير في مسار مختلف عن اللهاث لصناعة الفيلم، وبدلاً من الاشتغال على الفيديوهات التي تروي الحكاية، لماذا لا يصبح أولئك الذين قاموا بالتصوير، وأرسلوا أرشيفهم للآخرين هم الحكاية؟

يطرح رامي فرح في فيلم "لنا ذاكرتنا" هذه الفرضية العامة، لكنه لا يكتفي بجعل حيوات ثلاثة من أشهر الناشطين في مدينة درعا (يدن دراجي وعدي الطلب وراني المسالمة) ورابعهم الصحافي الشهيد (محمد الحوراني- أبو نمر) سياقاً للسرد، من خلال المادة المصورة في السنوات الثلاث الأولى للثورة. بل يغامر أكثر فأكثر، حين يدعوهم للعودة إلى الماضي، ليعرض عليهم المادة الفيلمية على شاشة كبيرة في مسرح، ويقوم معهم بتبين التفاصيل التي مرت في سياق الحدث، محاولاً رصد الإيقاع الإنساني لهؤلاء وهم يشاهدون ملامحهم، كما صورتها الكاميرا آنذاك، فيجعل من الخشبة التي يقفون عليها موقعاً للدخول إلى تلك الحكايات، ومكاناً للخروج منها، مجرباً أن يكسر الإيهام واندماج المشاهد مع ما يشاهده، وفق مستويات عديدة. فيبدأ من حكاية الثورة ذاتها، حيث يراجع أولئك الناشطون البداية، والمسار الذي مضت فيه، وصولاً إلى واقعهم الحالي كمنفيين. وضمن هذا السياق، تُطرح الأسئلة القاسية، مثل التفكير بصوابية المضي في الخيار المسلّح ضد النظام، وهي نقطة إشكالية، يندر أن تستذكر الوقائع من دون التمحيص فيها. وهنا يطرح أحد هؤلاء رؤية مختلفة عن السائد، تنطلق من المعاش اليومي آنذاك، والذي أفضى إلى موت مستمر للسوريين على يد آلة النظام الدموية، وتقاعس المجتمع الدولي عن حمايتهم، ما أدى في المحصلة إلى حمل السلاح من أجل الدفاع عن المدنيين.

أما المستوى الثاني، فهو العودة إلى حيوات هؤلاء ذاتهم، والتدقيق في رحلتهم المضنية في مواجهة القمع في أيام الثورة الأولى، ثم البحث عن الملاذات الآمنة بعدما تحولوا إلى أهداف محددة لقناصي النظام وقادة أجهزته الأمنية، مروراً بمقتل العديد من زملائهم، لا سيما الناشط  أبو نمر (محمد الحوراني) والذي شاهد العالم كله لقطات استهدافه وقتله من قبل عناصر النظام.

هنا، ربما، لن يستطيع المُشاهد الانعتاق من الحكايات. فهي تتشابه مع حيوات آخرين في كل المناطق السورية، لكنها تبلغ عتبة شعورية عالية، مع الفيض العاطفي الذي يصنعه تذكّر الماضي المؤلم بالشخصيات ذاتها! فعلى خجل، تظهر الدموع، ويتم إخفاء مصيرها، فلا يعرف المشاهد إن بكى هؤلاء أم حافظوا على صلابتهم أمام الكاميرات؟!

لكن المهم جداً في ما يجري، هو أن خطاب الفيلم لا يحاول تكريس الحكاية الذاتية في منحى مأسوي، مستسلماً لإغراء قدرة الإيهام على تملك الجمهور وكسب إعجابه. بل إنه يخترق هذه العلاقة، ويمضي صوب استثمار حضور الشخصيات، وذاكرتها، وحكاياتها، من أجل جعل المسألة برمتها مادة للتفكير من جديد. وتبعاً لهذا المستوى الثالث من الاشتغال على جدلية الفن والواقع، فإن رامي فرح وفريق عمله، يحاولان، وبتوقيت زماني ملفت (مرور 10 سنوات على الحدث السوري)، عدم التعاطي مع الواقعة الأبرز في تاريخ سوريا الحديثة من منصة الترويج. إذ لم يعد الاحتفاء بما جرى بوصفه تاريخاً، مهماً، بل بات على صناع الأفلام ومنتجي الفن عموماً مساءلة الماضي، ومماحكته، والنبش في طبقات التفاصيل المتراكمة، وتبين الأثر المرعب لما جرى على النفس البشرية وعلى الذاكرة. وهنا يمكن التعاطي بعمق شديد مع السؤال الذي يطرحه رامي فرح بوصفه حاضراً على خشبة المسرح مع شخصيات الفيلم، وبوصفه راوياً: "كيف ننجو؟.. حينما ننسى أم حينما نتذكر؟"..

المنحى التجريبي الذي مضى فيه رامي فرح في هذا الفيلم يبدو مغامراً، ضمن سياق الحمولة البصرية والمشهدية السورية العامة، إذ ثمة مراهنة على قدرة إعادة تركيب العلاقة مع الجمهور/المشاهد وعلى جذبه مرة ثانية وثالثة، دون أن يصبح السياق مملاً. لقد جرى تقديم الحكاية ذاتها عشرات المرات، فهل يمكن فعل ذلك مرة أخرى؟

الحصيلة التي نتابعها هنا تبدو ملفتة. لكنها، وربما هذه أفضل ملامحها، لا تصرخ، بل تهمس، فيحتاج كل من يجلس أمام الخشبة في الفيلم إلى أن ينصت جيداً، وأن يدقق في الوجوه والعيون، خشية أن تفلت منه، نأمة أو كلمة، فهنا ثمة حيوات، من لحم ودم، وذاكرة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها