الجمعة 2021/06/04

آخر تحديث: 13:13 (بيروت)

هشام جعيط وجدل المصريّين حول عاصمتهم واسم النبي

الجمعة 2021/06/04
هشام جعيط وجدل المصريّين حول عاصمتهم واسم النبي
هشام جعيط
increase حجم الخط decrease
في تقديمه للطبعة الثالثة لكتابه "الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي" يعرض هشام جعيط؛ الذي وافته المنية قبل أيام عن اربعة وثمانين سنة، بعض تفاصيل اللحظة التاريخية التي بدأ فيها نشاطه العلمي والفكري، ككاتب ومؤرخ ومفكر، فيذكر أن "الظروف الخارجية لعبت دورها في مسار حياتي الفكرية. فقد كانت بلاد المغرب غداة انتهاء الاستعمار في مرحلة تمخض، وكانت تطرح إشكاليات حضارية متعددة تتبعتها عن كثب، وهذا يجري أيضا على المشرق"، ويشير إلى نكسات "تونسية"، بموازاة نكسة يونيو، فـ "النظام البورقيبي في تونس شهد نكسة وتقهقرا بدءا من عام 1967 لأسباب داخلية... وعرفت بنفسي نوعاً من المضايقة صادرة عن بورقيبة بذاته"، ثم يكشف أنه باشر في تحرير الكتاب في العام الموالي للنكسة العربية "الشاملة"، مشرقا ومغربا، بعد أن "حرم" نفسه من تعميق ثقافته الفلسفية واختار التاريخ.  


في كتاب الشباب هذا؛ كما يصفه جعيط؛ وصف يبدو كاعتذار مسبق- الطبعة الأولى للترجمة العربية صدرت عن دار الطليعة عام 1984، والكتاب صادر بالفرنسية عام 1973-، يحاول صياغة مفهوم "علمي" للشخصية العربية الإسلامية، وتحديد المشاكل الفلسفية والتاريخية التي تستتبع هذا المفهوم. ثم يركز على الحضور الجماهيري "الطاغي" لفكرة "المصير المشترك"، ويطرح تجارب حزب البعث وجمال عبد الناصر في الوحدة للبحث. وإجمالا يبدو، جعيط، منشغلا، بما شغل نسبة معتبرة من المفكرين العرب في تلك الفترة وهي العلاقة بين: الدين، الإنسان، المجتمع والدولة. لكنه أظهر ميلا للتوسط بين اتجاهات فكرية وحركات سياسية وجماهيرية بدت متعارضة، فاقترح طريقا وسطا بين: واكتفى في مختلف المسائل إلى الدعوة إلى الطريق الوسطى بين: اشتراكية ورأسمالية، وحدة شاملة وتعاون بين أقطار مستقلة، علمانية وإسلامية. ثم أنه "انزلق"؛ بحمية الشباب ربما، إلى الجزم بأن "كثير من العلامات المنبئة تبشر بنهضة عظيمة للروح الإسلامية ويمكن بالتالي للشخصية العربية الإسلامية أن تطرح في قاعدة المصير العربي فتمنحه المعنى الإنساني التام كما تمنحه عزة في مجال الحضارة والثقافة".

منذ العام التالي للنكسة وحتى رحيله تابع، جعيط، كيف هوى الكثير من تلك الأفكار والحركات والآمال إلى بؤس يبدو شاملا، وقد شخص هذا المآل في بعض أحاديثه الأخيرة.


كان، جعيط، منشغلا بالواقع المباشر في "الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي"، ولم يفارقه ذلك الانشغال، لكنه دفع به إلى الخلفية، جاعلا البحث التاريخي "التخصصي" ينير بعض إشكالات الواقع؛ بصورة غير مباشرة؛ بالطبع. وقد ظهر هذا بصورة جلية أثناء النقاشات الحامية التي خاضها بعض المصريين- الذين يعدون أنفسهم مثقفين- منذ تم الاعلان عن مشروع العاصمة الجديدة لبلادهم (2014)، وقتها نصح البعض المتناقشين المذهولين بقراءة كتاب "الكوفة- نشأة المدينة العربية الإسلامية"، واستهجن الفريق المناوئ الاقتراح، وأوضح الناصحون: كتاب؛ جعيط، يبين كيف يؤثر قرار الحاكم على تاريخ الناس وعيشهم لمئات السنين، وهو يشرح بصورة تفصيلية كيفية الموازنة بين المدن التي تنشأ بصورة مفتعلة بقرار، لتكون مقارا للحاكم وحاشيته، وبين تلك المدن التي تنشأ بصورة "طبيعية" تلقائية، وتنموا تدريجيا بحسب تقدير سكانها لحاجتهم في التوسع.

مدينة الكوفة
في جلسات تالية احتدم النقاش، فريق يرى ألا فائدة من قراءة كتاب، جعيط، في البحث عن "معضلة" العاصمة الجديدة، إلا فيما يتعلق بتاريخ العواصم المصرية وأسباب اختيارها، فهذا الفريق يسلم أن استنتاجات، جعيط، صائبة لجهة تأثير قرار على حياة الملايين لمئات السنين، فبعدما فتح العرب- المسلمون- الجانب الأعظم مما يعرف الآن بالعراق، شرعوا في إنشاء مدينة الكوفة- أول مدينة عربية- إسلامية خارج الجزيرة العربية-، وأن اختيار المكان جاء تنفيذا لأمر عمر بن الخطاب (الخليفة الراشدي الثاني) لسعد بن وقاص (قائد جيوش الفتح) بأن "يجد (دار هجرة) لا يفصلها البحر (بمعنى النهر) عن المدينة"، ويشير، جعيط، إلى أن الكثير من المصادر(فتح البلدان، البلاذري، مثلا) تذكر ذلك، وتنبه على أهميته، ثم يذكر أن ذلك أدى إلى اختيار الفسطاط بدل الإسكندرية والقيروان بدل قرطاجة، وأن أمر عمر حددته ضرورة أن تبقي جيوش الفتح الاتصال المكاني ببلاد العرب بحيث لا يجد المدد القتالي- في حال الحاجة إليه- موانع مائية يصعب التعامل معها على العرب الذين لا يعرفون فنون التعامل مع الموانع المائية. ويشير، جعيط، إلى أن هناك روايات أخرى لاختيار موقع الكوفة المتاخم للصحراء، ومنها أن ضرورة التكيف مع المحيط الطبيعي لا مناص منها في كل المواقع التي استقر فيها العرب، وأن ذلك الاختيار أثر على الخيارات القادمة، وسن سنة، ظلت فاعلة حتى اللحظة في مصر، فالعواصم العربية- الإسلامية الأربعة لمصر: الفسطاط، العسكر، القطائع، القاهرة، كانت تطبيقا صارما لقرار عمر ونموذج الكوفة: ألا يفصلها مانع مائي عن بلاد العرب، فهي جميعا تقع في الجهة الشرقية لنهر النيل، وأن تكون متاخمة للصحراء، بعيده عن السكان الأصليين، وفي متاخمة الصحراء يورد، جعيط، أنه "ينسب إلى عمر القول: إن العرب بمنزلة الأبل لا يصلح لها إلا ما يصلح الأبل".

 وبصورة مكثفة فإن المقللين من فائدة كتاب "الكوفة" في تعميق النقاش بخصوص "العاصمة الإدارية الجديدة"، يرتكزون إلى جملة، جعيط، "عندي أن اختيار الموقع أملته خيارات سياسية واستراتيجية وثقافية"، ويرفضون الإيماءة المتضمنة في الجمل التالية في النقاش حول العاصمة: كان الفتح (العربي- الإسلامي) فعلا "هجرة مسلحة". والمدينة (الكوفة) أنشأت كي تكون مركزا لإقامة المقاتلة"، وما قد يوحي به حضورها في النقاش، فقد يفهم أن حضور كتاب جعيط يستحضر استنتاجات وتفسيرات وقائع وملابسات تاريخية ليستخدمها في نقد وقائع حاضرة لا علاقة بينهما. لكن الواقع أن الكثير من تفاصيل الواردة في "الكوفة- نشأة المدينة العربية الإسلامية" سوف ينير الكثير مما يجرى في العاصمة الإدارية الجديدة. 

ولأن النقاش مازال محتدما، فقد تم استدعاء، جعيط، مرات عدة بين بعض المصريين- الذين يعدون أنفسهم مثقفين، وتوزعوا فرقا متباينة فيما يتعلق بالعاصمة الإدارية-، لكن ذخيرة كل فريق قد تعززت، وقد استل كل منهم ذخيرته من ثلاثية "السيرة النبوية"، وبالأساس الجزء الأول "الوحي والقرآن والنبوة"، وإلى حد ما الجزء الثاني "تاريخية الدعوة المحمدية في مكة". فمثلا إزاء جملة، جعيط، هذه: "لا نعرف في الحقيقة عن فترة ما قبل النبوة، أي زمن المراهقة إلى البعثة في سن الثلاثين، حسبما أرجح من شهادة القرآن"، فقد أتفقت الفرق المتباينة مع الجزء الأول من الجملة لكنها تفترق عند ذكر سن البعثة، فريق لا يقبل أي نقاش "النبي بُعث في الأربعين، متفق عليه"، وفريق شرح حجج، جعيط، الذي يستند إلى جزء الآية (16) من سورة يونس "فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ"، ويفسر: العمر هو سن الجيل؛ حوالي ثلاثين سنة أو ما يزيد قليلا. وفريق، ثالث، اعتبر هذا التفسير مجرد زعم، ورفض طرح، جعيط، أن النبي ولد 580 وليس سنة 571، واعتقاده أن ولادته ليست مرتبطة بهجمة أبرهة الحبشي، وأن ربط ولادة النبي بعام الفيل "ربط غيبي يحمل بعداً رمزياً دينياً"، وفريق رابع اعتبر مسألة سن بعثة النبي ليست هامة فيما يتعلق بالعقيدة، وأن طرحها للبحث بالتالي ليس مهما بل إنه يثير جدلا في غير محله. 

الاسم الحقيقي للنبي
وهناك مثال آخر؛ عن تباين مواقف بعض المصريين الذين ذهبوا إلى نتاج المفكر التونسي هشام جعيط من مدخل البحث عن أسانيد لدعم مواقفهم المتصارعة حول العاصمة الإدارية، قريب الصلة بمسألة السن وهي المتصلة باسم النبي، الفريق الأول رفض مجرد قراءة أو سماع ما يطرحه، جعيط، الفريق المنفتح عرض دعوى أن "الاسم الحقيقي للنبي هو قُثَم وليس محمداً وأن هذا الاسم حصل عليه في المدينة" بتلخيص يليق بالمناقشات المحتدمة: "تسمية محمد لا ترد في القرآن إلا في الفترة المدنية من نزول الوحي، وهي ترد أربع مرات، كما ترد تسمية (أحمد) مرة واحدة في سورة مدنية كذلك. محمد لقب وليس اسم، واللقب صفة تُلصق بشخص، وهو (اسم محمد) قليل الوجود عند العرب. وجعيط يستند إلى البلاذري في "أنساب الأشراف" وقوله أن عبد الله (والد النبي) "يكنى أبا قُثَم ويقال أبا محمد، وأنه (البلاذري) الذي يرجح الكنية الأولى، يذكر أن من بين أبناء عبد المطلب من اسمه قُثَم توفي في الصغر وأن أباه كان يحبه كثيرا. فمن المعقول أن نستنتج (يكتب جعيط) أن النبي سمى على اسم عمه المفقود وهذا من عادات قريش.

مفهوم بالطبع أن فريق الأربعة كانت أكثر حدة في مواقفها من هذه المسألة، فمسألة الاسم تعلو على مسألة السن من حيث الأهمية والتأثير.
وفي ذروة الجدل كان المنهج الذي اتبعه، جعيط، محل اتفاق نادر، خاصة حججه في تتبع المصادر التاريخية بدقة وتقيمها تقيما صارما، وهو في المواضع التي تعاكس المستقر يستند إلى نصوص وينبه إلى أن المؤرخ يتعامل مع النصوص. وعن مصادره لم يجد أحدا وجه خلاف في تقديره العلمي: لدينا أربعة مصادر كبار: سيرة ابن اسحاق، ثم طبقات ابن سعد ثم أنساب الأشراف ثم تاريخ الطبري. إن أهل السير كان لهم حس تاريخي عميق... وهم فعلا باحثون عن الحقيقة التاريخية، ويقومون بمقارنات بين مصادرهم ويحاولون دوما الوصول إلى ما هو "الثبت عندنا" كما يقولون.

في تلك النقاشات المتمحورة حول موضوع العاصمة الإدارية بين بعض المصريين- الذين يعدون أنفسهم مثقفين- والتي كان يستدعى فيها بالأساس كتاب، جعيط، عن الكوفة، ثم كتابته المتعلقة بالسنة النبوية، ذلك أن هؤلاء المتناقشين، مثلهم مثل غالبية المصريين لا بد لهم من مقاربة أي شيء مقاربة دينية في الكثير من المواضيع، كانت باقي كتبه ترد سريعا، وكذلك جوانب من حياته، وحول كل نقطة من هذه النقاط كان الانقسام والصراع مفهوما، ترد تفاصيل من كتابه عن السيرة فتكتسب واقعة أنه "سافر الى فرنسا لاستكمال دراسته الجامعية في التاريخ الإسلامي، ونال الدكتوراه عام 1981، من جامعة السوربون، عن رسالة بإشراف كلود كاهن"، أبعاد متناقضة.

وحين ترد كلمات مثل: "الراجح عندي، هذا رأي، في تقديري"، يكون الفريق الأعلى صوتا ذلك الذي يأخذ على الكاتب والمؤرخ والمفكر إن النتائج التي وصل إليها ليست حقائق وإنما تخمينات قائمة على تأويلات"، ثم يزيد: وهي فوق ذلك "ليست من إنتاجه بل استنتاجات سبقه إليها المستشرقون"، هؤلاء الذين يريدون حقائق يصعب عليهم تلمس منهج، جعيط، ولن يدركوا كم انتقد كبار المستشرقين وفند الكثير من نتائج دراساتهم، لكنه بالطبع كان يقدر عاليا منهجهم البحثي ومنجزهم المعرفي، وهو في كل ما قام به كان ينطلق من حق الدراسات التاريخية النقدية أن تضع الوقائع وتفسيراتها والكتابات عنه موضع البحث والمساءلة.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها