الأربعاء 2021/06/30

آخر تحديث: 14:11 (بيروت)

إعدام السينما الإيرانية

الأربعاء 2021/06/30
increase حجم الخط decrease
صناعة الأفلام في إيران مهنة وجودية محفوفة بالمخاطر، يصرّ عليها السينمائيون لإثبات حقّ ووجود، وتلاحقها السلطات لضبطها وإحكام السيطرة عليها. محمد رسولوف، مخرج فيلم "ليس هناك شرّ" الفائز بجائزة برلينالة العام الماضي، حُكم عليه في وطنه بتهمة "الدعاية ضد الحكومة الإيرانية"، من بين أمور أخرى. بسبب قيود الوباء، لم يكن مضطراً لقضاء فترة عقوبته في السجن؛ ومحكوم عليه بالانتظار حتى يحين دوره وينفّذ عقوبته. رغم ذلك، اختارته إدارة مهرجان برلين السينمائي عضواً في لجنة تحكيم المسابقة الرسمية في النسخة الأخيرة (من 6-20 حزيران/يونيو)، في واحد من القرارات/الرسائل السياسية المعروفة عن إدراة المهرجان. تابع رسولوف فعاليات المهرجان من منزله، وتعيّن عليه مشاهدة الأفلام وتبادل الآراء مع زملائه عبر الإنترنت.

من بين أفلام المسابقة، الفيلم الإيراني"قصيدة البقرة البيضاء" (إنتاج مشترك بين إيران وفرنسا، 105 دقائق)، والذي مثل فيلم رسولوف المتوّج العام الماضي، يقارب موضوعاً إيرانياً حساساً: عقوبة الإعدام. وفقاً لإحصاءات منظمة العفو الدولية، تتصدّر إيران لائحة الدول المنفّذة لأحكام الإعدام عالمياً، بنسبة وصلت العام الماضي إلى نصف حالات الإعدام على مستوى العالم. الفيلم، للزوجين بهتاش صناعي ها، ومريم مقدّم ،المقيمين في إيران، يعارض بوضوح عقوبة الإعدام، عبر حكاية إنسانية تركزّ على عواقب وتبعات الإعدام في حياة معنيين بالأمر أوقعتهم الأقدار في مأزق أخلاقي لا فكاك فيه من الاصطدام برغبات مربكة وأسراب نجاة عصية وأزمات نظام قضائي يستهين بحياة البشر.


الحكاية بسيطة: بعد عام من تنفيذ حكم الإعدام بحق زوجها على جريمة لم يرتكبها، تستدعي السلطات الأرملة مينا (التي تؤديها المخرجة)، لإعلامها أن زوجها أُعدم ظلماً بتهمة القتل، وأنهم آسفون. لكن الاعتذار لا يكفي مينا، فهي تريد أن يعترف القضاة رسمياً بخطئهم، وهذا مستحيل تقريباً. في الأثناء، ثمة عبارات ثقيلة يتعيّن على الأرملة الشابة سماعها، من قبيل "هذا هو المكتوب"، التي يقولها صهرها قبل أن ينصحها بخلع ملابس حدادها. في المكتب الذي تتقدّم إليه بشكوى رسمية، يقولون لها "إنها إرادة الله". حتى المحامية التي أرادت تكليفها بالقضية ذهبت إلى حدّ القول أن "عقوبة الإعدام حق من حقوق الإنسان".

عبر دهاليز السلطة والبيروقراطية، تخوض الأرملة الشجاعة رحلة في سبيل تخفيف آلامها واستعادة شرف وكرامة زوجها المغدور. التعويض المادي سيساعد أيضاً رغم تعفّفها عنه، لأنها تقوم وحدها بتربية ابنتها البكماء، وعليها في الوقت نفسه كسب المال لإيجاد منزل يأويهما. يريد أهل زوجها إجبارها على رعاية ابنتها، لكن مينا لا تسمح لهم بذلك. تذهب في طريقها الخاص، حتى إن كانت شائكة. وفجأة يدخل حياتها رضا (علي رضا ساني فار). يتظاهر الرجل الغريب بأنه صديق زوجها ويريد مساعدتها. لديه الشقة التي تبحث عنها لرعاية ابنتها، ويعرف القانون جيداً. لأنه، كما سيعلم المشاهد، هو القاضي الذي أصدر حكم الإعدام. بدافع من ضميره، يريد مساعدة مينا. لكن عندما تكتشف ذلك، تشعر بالخيانة أكثر.

لا تنعقد دراما "قصيدة البقرة البيضاء" على حلب الأسى أو التفجّع الزاعق في مشاهد ميلودرامية، إنما تنطلق من سؤالها البسيط "ماذا يحدث عندما يُعدم شخص ظلماً؟"، مستثمرةً قسوة وقائع عيش شخصياتها لتوضّح كيف تنبت المودة على أرض قاحلة عاطفياً بين طرفين تتنازعهما ميول متعارضة وثقل أعباء الفقد والذنب والخسارة. بتكثيف وإحكام ومشي وئيد على خيط رفيع، يقدّم الزوجان الإيرانيان فيلماً نفسياً قوياً ودرساً أخلاقياً جلياً ينحاز للإنسان مقابل السلطة، في حكاية مأسوية من أكوام تراجيديات العالم الثالث، تتخلّلها إستعارة رقيقة لصورة الأمّ وروح متمرّدة لا تُخطئها العين.

قبل برلين، عُرض الفيلم للمرة الأولى في "مهرجان فجر السينمائي" العام الماضي، في نسخة منقّحة بالطبع حصلت على إجازة السلطات الإيرانية الرسمية، لكن بعد ذلك العرض اليتيم، لم يحصل الفيلم على إذن بالعرض داخل إيران. والمصير ذاته يشاركه الفيلم الإيراني الثاني المشارك في برلينالة. "المحطة النهائية" (إنتاج مشترك بين إيران وألمانيا، 117 دقائق)، للمخرجين بارديا ياديجاري وإحسان مير حسيني، يصف التأثير المدمّر للرقابة، عبر حكاية تمزج بين دراما الإدمان وفانتازيا نهاية العالم والأمثولة الاجتماعية.
 

طهران، في المستقبل القريب. أدّى التلوث والفيروس القاتل إلى تحويل المدينة إلى مكب للنفايات وأجبر السكان على الهجرة أو العيش في الحجر الصحي. يعيش الشاعر المدمن على الهيروين بيمان (يؤدي دوره أيضاً المخرج بارديا ياديجاري) مع والدته المزعجة في مبنى سكني شاهق ومتهالك داخل حيّ خاضع لمراقبة ضُبّاط الحجر على مدار الساعة. يكافح بيمان من أجل البقاء، ويقسّم أيامه بين قضاء الوقت مع ابنته المراهقة التي لا تقل عنه حيرة، وامرأة تعيش في الولايات المتحدة من المفترض أن يتزوجها في مرحلة ما من أجل الهجرة، وحضور مجموعات المساعدة الذاتية لعلاج إدمانه من دون تحقيق الكثير، ومحادثات مع أقرب أصدقائه رامين وموزجان، وهما مثيران للشفقة مثله، ولديه علاقة غرامية عَرَضية مع فتاة يحبّها بشكل ميؤوس منه.

تتزايد الشائعات عن حرب وشيكة، ويقود اليأس أصدقاء بيمان للمغادرة واحداً تلو الآخر، تاركينه وحيداً تعذّبه الأشباح. لدى بيمان أيضاً أفكار عن الهروب، لكنه ما زال يكتب نصوصاً للآخرين بينما يحاول (ويفشل بسبب الرقابة) نشر كتاب كان يعمل عليه لسنوات عديدة، ويكتب قصائده مثل رجل ممسوس، والتي بدورها تخضع لفحص موظف في السلطات الثقافية. في طهران شبه المدمرة هذه، التي يهيمن عليها التلوث والحجر الصحي والمراقبة الرسمية، والمثقلة بالفقر والمهددة بالحرب الوشيكة، يعيش بطلنا الضد المثالي في كوميديا ​​مأساوية تستوحي من أعمال آرييل دورفمان وتقتبس من "ضوء الشتاء" لإنغمار بيرغمان و"الإصلاح الأول" لبول شرايدر.

يحمل الفيلم المستقبلي والأبوكاليبتي مزيجاً سياسياً وتجريبياً ومفجعاً في آن، وهو مزيج من شأنه في معظم الحالات أن يؤدي إلى مجرد مُعارضة فنية، لكنه هنا ينتهي في بعض الأحيان بالإبهار. صحيح أن تثمير الإمكانات الفنية لا يذهب بعيداً، ومع ذلك، ما زال المرء مندهشاً من جرأة هذه الباكورة الإخراجية وطزاجة أطروحاتها التأملية في حال العالم وسوداوية منظورها للمستقبل الإيراني. مثل "قصيدة البقرة البيضاء"، فهذا الفيلم أيضاً يقدّم رؤية سينمائية شخصية للغاية.

لا يلعب بارديا ياديجاري الدور الرئيسي ويشارك في الإخراج، بل قام أيضاً بتطوير السيناريو. والدته كذلك تظهر في الفيلم في دور أم بيمان، فيما تمكّن مير حسيني بدوره من إقناع أخيه بالمشاركة في إنتاج الفيلم. أصبحت مثل هذه الشبكات الخاصة والعائلية ضرورية لصناعة الأفلام في إيران في السنوات الأخيرة. إذا أردت إنجاز مثل هذا الفيلم الناقد، فعليك حشد دائرة معارفك وأصدقائك وعائلتك. وبالتالي، فالقدرة على تقديم الفيلم في مهرجان دولي تغدو - أكثر من مجرد امتياز ووجاهة - فعلاً سياسياً تماماً.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها