غير صحيح انتفاء الدولة اللبنانية. بل هي موجودة وعاملة وفاعلة، لكن من خارج تعريفها البديهي الذي يستطيع أي تلميذ في المرحلة الثانوية تسميعه في لحظة. الدولة اللبنانية، التي تفتقر مَرافقها نفسها حتى للحبر والورق والكهرباء لإنجاز أبسط المعاملات اليومية، تُعنى، فعلياً، باستدامة "الاستقرار" والحؤول دون "الفوضى". لكنه دوام استقرار الأزمة، وترياق فوضى الاحتجاج. أما فوضى الحياة والليرة والودائع المصرفية، بطش الشحّ في مستلزمات العيش الأساسية من وقود وطبابة ودواء وسلع غذائية، فهذه يتولاها ربّ لم يرَ أحد من تمظهراته شيئاً.
الدولة الآن، وبدلاً من أن تكون الوسيط بين المواطن والسيستم، المؤسسة الضخمة المرعية هي نفسها بالقوانين لإنفاذ الحقوق والواجبات بالعدل والمساوة كما يُتوقع منها في أي بلد في العالم -حتى البلدان المتعثرة- تضطلع بدور الوسيط بين الناس (المتساقطة عنهم صفة المواطَنة منذ زمن) وبين الفئة النافذة المتحكمة (فلا هي سياسية إذ لا سياسة في لبنان بل التسييس الفارغ العنيف، ولا هي حاكمة إذ يشتمل الحكم حُكماً على الإدارة والخدمات في الحد الأدنى). سواء كان المتحكمون مؤسسات مصرفية وعلى رأسها المصرف المركزي، أو زعامات تقليدية وأحزاب سلطة.
وليست هذه الدولة أي وسيط، بل الوسيط كحَكَم مُرتشٍ ومنحاز. والرشوة ليست دوماً "هدايا" نقدية أو عينية، بل يمكن تسييلها على سعر صرف الطوائف، الشراكة في الأرباح السياسية والفساد، التورط معاً في جرائم كبرى، أو التواطؤ المصلحي الفردي والجماعي.
والأكثر إدهاشاً -ومنطقية أيضاً- أن هذا كله يُنفّذ بالقانون. القانون الموجود المفقود، الذي يخسر صفته الناظمة الكافلة للأمن والأمان والعدالة ليصبح حبر الاستنساب وأداة الظلم بمجرد اجتزائه وتطبيقه كيفيّاً، يتعاطى كسلطان غاشم مع تهمة "كسر وخلع وتخريب وترويع واعتداء" على مصرف يحتجز أموال الناس والمؤسسات خلافاً للقانون، دون الإدارات الرافضة لتطبيق قانون "الدولار الطلابي" ومهرّبي الأموال في عز الأزمة أو المتسببين فيها. ويتحرك القانون نفسه للتعامل مع "ارتياب أمني" في صحافي أجنبي تجرأ ووطأ أرض المقاومة المحرّمة حتى على الدولة-الوسيط.
بالمنطق نفسه، يُستدعى للتحقيق ناشطون وإعلاميون ومدوّنون في السوشال ميديا، فيما مرافقو السياسيين الذين يعتدون على لبنانيين بالضرب (ياسمين المصري وغيرها)، ومهربو المحروقات ومخزّنو الأدوية في أحلك أوقات الأزمة، يشعرون بكامل الطمأنينة ويستمرون في "أعمالهم" في وضح النهار.
الدولة اللبنانية، لا سيما في ذراعيها الأمني والقضائي، تتحول إلى كيان هجين، بين فشلها في وظيفتها الأمّ ومَواتها الإفلاسي، وبين نجاحها في حماية الأمر الواقع وأربابه من النتائج الطبيعية لهذا الواقع، مآسيه وتجنّياته وغضب ضحاياه.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها