الجمعة 2021/06/25

آخر تحديث: 18:31 (بيروت)

للانهيار قواه الناعمة أيضاً

الجمعة 2021/06/25
للانهيار قواه الناعمة أيضاً
وزيرة الإعلام منال عبد الصمد (دالاتي ونهرا)
increase حجم الخط decrease
لطالما ارتبط مفهوم "القوة الناعمة" بالأنظمة أو الحكومات أو المنظومات الإيديولوجية الكبرى. وغالباً ما يجذب هدّافو القوة الناعمة، الأنظارَ، في ملعب السياسات الخارجية والدولية. لكن إلى أي مدى يمكن الكلام عن قوى ناعمة محلية تمتلكها السلطة، أو يمارسها لاعبون نافذون في المشهد السياسي والاجتماعي الداخلي، على مواطنيهم؟ وهل يتأهل بلد صغير بأزمات كبيرة، مثل لبنان، لتفكير من هذا النوع؟

إذا كانت القوة الناعمة هي القدرة على الجذب والاستقطاب، بدلاً من الإكراه (بالقوة العسكرية أو العقوبات الاقتصادية، بالتهديد أو الرشوة) المرتبط بالقوة الصلبة.. وإذا كان، "بالنعومة" المستندة إلى رأس مال ثقافي معين، يتم السعي إلى تشكيل رغبات ومسارات وسلوكيات الآخرين بالتركيز على ما تفترضه القوى الناعمة عنصراً مغوياً، فإن عُملة القوة الناعمة هي غالباً: الثقافة والقيم السياسية والسياسات الخارجية.

ولعل المنظّر السياسي الأميركي، جوزيف ناي، كان أول مَن قدّم مفهوم "القوة الناعمة" في أواخر الثمانينيات. وبحسبه، تعتمد القوة الناعمة لأي بلد، على ثلاثة موارد أساسية: ثقافتها (في مناحيها الجذابة)، وقيمها السياسية (عندما تفي بها في الداخل والخارج)، وسياساتها الخارجية (عندما تُرى شرعيةً ومتمتعة بشيء من السلطة الأخلاقية). و"قد يحصل بلد ما على النتائج التي يريدها في السياسة العالمية لأن البلدان الأخرى – المعجبة بقيَمه المعلنة، والساعية لمحاكاة نموذجه، والطامحة لتحقيق ازدهاره وانفتاحه على سبيل المثال - تريد أن تحذو حذوه". ويؤكد ناي أن "الإغراء غالباً ما يكون أكثر فاعلية من القسر.. وقيم مثل الديموقراطية وحقوق الإنسان والفرص الفردية، مغرية للغاية". لكنه يذكّر بأن القوة الناعمة هي مفهوم وصفي، وليس معيارياً، بمعنى أنه يمكن استخدام القوة الناعمة لأغراض شائنة، على غرار ما فعل هتلر وستالين وماو، فهذه القوة ليست شكلاً من أشكال المثالية أو الليبرالية، بل هي ببساطة شكل من أشكال القوة.

وبالعودة إلى لبنان، قدّمت الأسابيع الأخيرة المفعمة بالأحداث والفجائع الاقتصادية والسياسية، ثلاثة نماذج لما يمكن التفكير فيه كقوى ناعمة. ورغم أنها تبدو متباعدة على طريقة "من كل وادٍ عصا"، إلا أنها تتشارك المفهوم بأكثر مما يظهر للعين المجردة: أولاً، وزيرة الإعلام في حكومة تصريف الأعمال، منال عبد الصمد. ثانياً، الأحزاب الرئيسية في البلد، المتنافسة على ريادة مركب يغرق. وثالثاً، جزء ليس باليسير (عدداً وتأثيراً) من وسائل الإعلام والإعلاميين الذين يزعمون الخطاب المضاد للسلطة "كلن يعني كلن"، لكن، حين يصل الأمر مثلاً إلى دور حاكم مصرف لبنان وعموم القطاع المصرفي في تدهور الليرة وضياع الودائع، يرتدون القفازات ويحاذرون "التجنّي"، مؤثرين "الصورة الأكبر"، وقد يذهبون أحياناً إلى لوم اللبنانيين أنفسهم على مُصابهم.

فخلال مشاركتها الأخيرة في مؤتمر وزراء الإعلام العرب في الجامعة العربية، حظيت عبد الصمد بالموافقة على تبنّي "جائزة بيروت للإنسانية"، النابعة من ذكرى انفجار بيروت لكل عمل صحافي لبناني أو عربي حول الانفجار بيروت "يراعي الموضوعية الاعلامية ويدعو للانسانية وإحقاق الحق والعدالة". كما انتزعت إعلان بيروت عاصمة للإعلام العربي للعام 2023، "كدعم معنوي كبير للبنان ولبيروت، وله بعد استراتيجي يكرس بيروت مركزاً للاعلام العربي ويشجع الاستثمار في القطاعات الإعلامية ويخلق فرص عمل للإعلاميين من خلال التلاقي بين المستثمرين في القطاع الإعلامي وبين الإعلام اللبناني"، كما قالت. وبذلك، وبصرف النظر عما قد يراه البعض في الكلام عن جوائز للإنسانية في هذا الزمن اللاإنساني لبنانياً، وعن الحث على الاسثمارات في بلد يحتضر، انفصالاً عن الواقع اللبناني المزري لا سيما على مستوى العدالة واستقلالية القضاء والبنى التحتية وموارد الطاقة، فإن عبد الصمد تبدو متصرّفة كقوة ناعمة للحكومة المستقيلة والعهد، بانيةً على إرث ثقافي وإعلامي واستثماري للبنان، بل وحتى سياسي بمعنى "واحة الحريات والتعددية والحُكم التشاركي"، وهو إرث لم يبق منه شيء تقريباً. بل إن خطابها واقتراحاتها النابعة، من حيث الشكل، من منطلق مؤسساتي وإداري منظّم ومستقر (في حين أن الوزارات باتت تتسوّل ثمن القرطاسية والطوابع)، تبدو، وبأثر من هذا الشكل بالذات، أقرب إلى المفارقة المحزنة التي تذكّر بما خسره اللبنانيون أكثر مما يصبون إلى كسبه. هذا، ولم نتحدث عن القيم السياسية اللبنانية (حقوق الطوائف، حقوق المهربين، الحكومة المستعصية فيما الناس تموت من الجوع والقهر)، ولا عن السياسة الخارجية (معاداة العرب والغرب، وفي الوقت نفسه طلب دعم المغتربين، وانتظار معجزة المساعدات فيما لا مبادرات ولا من يعير البلد اهتماماً إلا لفظياً وعسكرياً في أحسن الأحوال).

أما الأحزاب، فلنا، مثلاً، في المظاهر الأخيرة للملمة الشجارات في مواقع التواصل الاجتماعي، بين "التيار الوطني الحر" من جهة، و"حزب الله" و"حركة أمل" من جهة ثانية، وقبل ذلك بين الحزب والحركة أيضاً، عِبرة قوة ناعمة داخلية، ليست بالجديدة، لكن تعاظم أثرها أصبح لافتاً. ففي لمح البصر، تشتعل الحملات السياسية، والتي لا تخلو من شتائم وتحقير وعنصرية مذهبية. وفي لحظة، تتوقف، بأثر من تعميم "من فوق" لم تعُد آليته خافية على أحد: يصدر الأمر من القيادة لمجموعة محدودة من الكوادر، وهؤلاء يتولون نشرها في مجموعات "واتسآب" وغيرها من وسائل التواصل، فتنكفئ الجيوش وتُمحى المنشورات والردود عليها، ويا دار ما دخلك شر. هكذا تسوق الأحزاب منتسبيها ومناصريها، وبهم تدير معاركها وتحريضها وضغوطها المتبادلة على الأرض (أو تحتها) لتحصيل نتائج مرجوة في أبراج السلطة. وما الغواية هنا؟ حقوق الجماعة التي لا بد أن يحصل عليها القائد، فيأكل ويُطعِم. وما الثقافة؟ "نحن" و"هُم". وما السياسة؟ سَوسُ الراعي لقطيعه، وهذا الأخير ليس مدفوعاً بقناعاته وعصبيته فحسب، بل أيضاً بالطريقة الوحيدة التي يعرفها ليكون مواطناً، وهي أن يزور الدولة (المنهارة) من بوابة الزعيم. وما القِيَم؟ لا قِيَم سوى حفظ النوع سياسياً فيما الأنواع كلها تفنى بيولوجياً واجتماعياً.

وأخيراً وليس آخراً، الإعلام ورياض سلامة والمصارف. يصعب هنا إثبات أي من صنوف الإكراه المذكورة أعلاه، وبإعلاء حُسن النوايا نقول إنها فتنة الاقتصاد الحر الضائعة وحميّة "الصحافة" لحمايتها. فتعاميم سلامة، المتضاربة والمتناقضة والمنخورة بالثغرات والأفخاخ والأكاذيب، تجد من يفندها بجدية، ومن دون كثير نقد. والمصارف، وضيوف البرامج من مصرفيين، يوجد من يدافع عن بقائها وبقائهم (بكل الحِيل لتجفيف قيمة الودائع وإقفال حسابات) لأنه يعادل "بقاء" أموال المودعين، أو بالأحرى أبخِرتها وأرقامها على الشاشات. أما موارد القوة الناعمة هذه، من سويّة ما لا يُعدّ أو يُبث إعلانياً أو يُودَع ويُحوَّل، فتعتمد على "الموضوعية" كقيمة مهنية تُبرز وجهات النظر كافة، وعلى تكيّة الحرية وثقافة النقد ولو "من داخل الثورة"، وحب المواطنين بمواجهتهم بحقيقتهم إذ يساهمون بتهافتهم وطرقهم الملتوية في نسف القانون وسفك الليرة وشح الخبز والبنزين والدواء والقهوة.. بصرف النظر عن أنها الآن الأساليب الوحيدة المتبقية لتدبر أمور العيش، فيما تجار الأزمة لا يجدون من يردعهم. فهذه قوة ناعمة، تحت حريرها مخالب قذرة.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها