الإثنين 2021/06/21

آخر تحديث: 12:47 (بيروت)

دانتي في الحياة الجديدة

الإثنين 2021/06/21
increase حجم الخط decrease
لمناسبة مرور 700 عام على رحيل دانتي أليغييري، أعلنت الجمهورية الإيطالية الاحتفال بصاحب "الكوميديا الإلهية" بسلسلة من الفعاليات تمتد حتى نهاية العام الحالي. مع تواصل هذه الفعاليات، عادت الأعمال الفنية التي تستلهم سيرة الشاعر الكبير لتحتل الواجهة الإعلامية، ومعها عادت صور مُلهمَته بياتريشي "السيدة الرائعة التي، لخصالها، وضعها الرب العلي في سماء الخشوع، حيت توجد مريم"، بحسب ما جاء في "الحياة الجديدة".

 

وضع دانتي هذا الكتاب في السنوات الأخيرة من القرن الثالث عشر، جامعاً بين النثر والشعر المنظوم، وفيه روى قصته مع بياتريشي في سيرة من 42 فصلاً ضمت 31 قصيدة موزونة من ثلاثة صنوف مختلفة. نشرت "مؤسسة دانتي" نسخة محققة من هذا الأثر الأدبي الرفيع في 1907، وتمّت مراجعة هذه النسخة في 1932، وذلك انطلاقاً من نحو خمسين مخطوطة. بعدها، تُرجمت "الحياة الجديدة" إلى لغات عديدة، ونقلها الأديب التونسي محمد بن صالح إلى العربية في السنوات الأخيرة، ونشرت "دار الكلمة" و"منشورات الجمل" هذه الترجمة في 2009. على مدى قرون من الزمن، ألهمت هذه السيرة الشعرية عدداً كبيراً من الفنانين التشكيليين، فاستعادوا أشهَر فصولها، وترجموها بلغة الرسم واللون.

اللقاء الأول

التقى دانتي بملهمته مرات قليلة، قبل أن يخطفها الموت في سن مبكرة، ولم يعرفها إلا من بعيد، غير أن هذا اللقاء صعقه، وفتح أمامه "الحياة الجديدة، الرؤيا الجديدة، عهد الصبا، ربيع الحياة"، كما يقول في مستهل ديوانه. جاء اللقاء الأول وهو ينهي عامه التاسع وهي تدخل عامها التاسع، كما روى في مستهل هذه السيرة الشعرية: "تسع مرات، منذ ولادتي، كانت سماء الضياء قد آبت إلى ذات المكان تقريباً، بفعل دورانها الذاتي، عندما بانت لناظري أول مرة مولاة روحي الرائعة، التي كان الكثيرون ينادونها بياتريشي، من دون معرفة بما تخبّئه التسمية". وتعني هذه التسمية المغتبطة، أو التي تمنح الغبطة.

يواصل الراوي سرد الحكاية: "تراءت لي وهي في بدء عامها التاسع تقريباً، وأكون قد رأيتها في نهاية عامي التاسع تقريباً. كانت يومها قد تبدّت في لباس لونه جدّ نبيل، أحمر قان، ساكن، محتشم، وكانت متزنة ومحلّاة بما يناسب سنّها اليافعة. عند هذا الحد، أقول صادقاً إن روح الحياة، التي تقيم في أكثر حجرات القلب خفاء، بدأت ترتعد بعنف حتى أنها كانت في فظاعة تبين في أدنى النبضات. ومرتعدة قالت هذه الكلمات: هو ذا إله أعظم مني يأتي ليكون مولاي".

يقارن دانتي بشكل خفي بين ظهور بياتريشي الأول، وبدء انطلاقة المسيح في حياته العامة حين نزل إلى نهر الأردن ليتعمّد من مياهه على يد يوحنا المعمدان، وقال الأخير عند رؤيته متجهاً نحوه: "هذا هو الذي قلت عنه: إن الذي يأتي بعدي صار قدامي، لأنه كان قبلي" (يوحنا 1: 15). صعق الحب الإلهي قلب الشاعر، وبات خاضعاً له كما يقول في ختام هذا الفصل: "مراراً كان يأمرني بالسعي إلى رؤية الملاك الصغير: لذلك مراراً، كنت خلال طفولتي أجدّ في طلبها، وكنت ألمحها في هيئات نبيلة وحميدة بحيث يمكن للمرء أن يقول فيها هذه الكلمات للشاعر هوميروس: ما كانت تبدو سليلة كائن بشري، بل سليلة كائن إلهي".

اللقاء الثاني

التقى دانتي ببياتريشي للمرة الإولى إذاً، يوم كان في التاسعة من عمره.. و"بعد انقضاء مقدار من الأيام يعادل بالضبط مقدار تسعة من الأعوام"، تجلّت له "تلك السيدة الرائعة في لباس ناصع البياض، بين سيدتين لطيفتين، كانتا تكبرانها سناً، وحين عبورها أحد الشوارع"، تطلّعت إليه وحيّته. يتوقّف الشاعر عند هذه التحية ويصفها بإسهاب: "أرسلت بنظرتها نحو المكان الذي كنت فيه واقفاً في كامل الوجل، وبتلك اللطافة فائقة الوصف، المثابة اليوم في العالم الآخر، ألقت عليّ تحية عفيفة جداً إلى درجة بدا لي معها إني أرى أقصى حدود الغبطة. كانت الساعة التي أدركتني خلالها تحيتها العذبة جداً، بلا ريب، هي التاسعة من ذلك النهار، ولأنّها كانت المرة الأولى التي تنفصل العبارات عندها عن شفتيها لتبلغ أذنيّ، فقد شعرت بمتعة جعلتني، كما النشوان أنزوي عن الناس، أستجير ببيتي، وفي غرفة معزولة أخذت أفكّر في هذه السيدة الرائعة".

في العام 1877، استعاد الرسام الإيطالي رافاييل جيانيتي، هذا المشهد، في زيتية دخلت متحف نيوبورت في ويلز، غربي بريطانيا، وفي هذه الزيتية ظهر دانتي في لباسه الأحمر الذي عُرف به وهو يتطلع في اتجاه بياتريشي وهي تمشي بلباسها الأبيض وسط سيدتين تكبرانها سناً، واللافت أن الرسام جعل هذا اللقاء وسط حدائق بوبولي الشهيرة في فلورنسا. وفي 1883، صوّر الرسام البريطاني هنري هوليداي بدوره هذا اللقاء في زيتية دخلت "غاليري والكر" في ليفربول، وبدت بياتريشي هنا وهي تعبر طريقاً تشرف على نهر أرنو.

إثر هذا اللقاء، استغرق دانتي في التفكير بمحبوبته، ثم غفا، ورأى في حلمه إله الحب في سحابة نار، حاملاً بياتريشي الملتحفة رداء أحمر في لون الدم. يمسك إله الحب بقلب دانتي ويعطيه لبياتريشي فتأكله، ثم يصعد إلى السماء معها. نقرأ في هذا الفصل: "وبينما كنت أفكر فيها، إذ بنوم لذيذ يلمّ بي، ورؤيا عجيبة تظهر لي، كان يبدو لي أني أرى في غرفتي غيمة من لون النار تبيّنت فيها صورة سيد هيئته ترعب من يراه، لكنه كان مفعماً بالحبور بحيث كان يبدو آية، كان في عباراته يقول أشياء عديدة ما كنت أفهمها، ما عدا بضعة منها ومن بينها هذه، أنا مولاك. وبدا لي أني أرى شخصاً ينام في ذراعيه، عارياً، لكنه ملتحف بملاءة ناعمة، تثبّت منه، فتعرّفت على صاحبة التحية التي تكرّمت علي، ذلك اليوم، بالسلام. وبدا لي أن هذا السيد كان يمسك في إحدى يديه شيئاً كله يشتعل ويقول لي هذه الكلمات: أنظر قلبك. وبعدما ظلّ على هذه الحال بعض الوقت، بدا لي كأنه يُفيق تلك التي كانت نائمة، وكان في ذلك يبذل جهدا لبقاً، حتى إنه كان يجعلها تأكل ذلك الشيء الذي كان يشتعل في يده، والذي كانت هي تأكله في شيء من الخوف. بعد ذلك، تحوّل حبوره إلى بكاء شديد المرارة، ومستغرقاً في بكائه، كان يحضن بيديه تلك السيدة، وكان يبدو لي أنه يصعد معها باتجاه السماء. كنت أحس بغمّ عظيم إلى حد أن نومي الهزيل ما كان قادراً على تحمّله، وحتى انه انقطع، وأفقت".

الالتحاق بالآخرة

يُصاب دانتي بمرض الحب، ويعتريه الوهن. يسأله الناس: "من هذي التي من أجلها الحب قد أضناك؟"، فينظر إليهم مبتسماً من دون أن يقول لهم شيئاً. يواصل الكتابة والنَّظم، وللتمويه، يأخذ ستين اسماً من أسماء جميلات المدينة، ويحتل اسم مولاته المرتبة التاسعة في هذه الأسماء. يشرع الناس في الثرثرة "بما يتجاوز حدود اللياقة"، ولهذا تمتنع بياتريشي عن تحيته حين تلتقي به، وهي السيدة التي كانت "ملكة لكل الفضائل". يحضر الشاعر حفلة أقامتها إحدى السيدات النبيلات في منزلها إثر زواجها، ويلمح بياتريشي في هذا الحفلة، فيجفل، ويشعر بألم غريب، وتضطرب روحه. يمرض تسعة أيام، وفي اليوم التاسع، يشعر بآلام لا تطاق، ويدركه طيف، طيف مولاته، ويقول لنفسه متحسّراً: "تقتضي الضرورة أن الرائعة بياتريشي ستشرف على الموت في يوم ما". وبعد أيام قليلة، ترحل بياتريشي عن الدنيا، مثل المسيح الذي "رحل عن الدنيا والتحق بالآخرة"، بعدما "وهب الحياة للأعجوبة الخالدة".

في العام 1871، أنجز الفنان البريطاني غبريال روزاتي، لوحة تمثل الحلم الذي تراءى لدانتي عند رحيل بياتريشي، وفيها ظهر الشاعر وهو يتقدّم في اتجاه محبوبته المسجاة برفقة ملاك يمسك بيده. ينحني هذا الملاك نحو السيدة ليقبلها في حضور سيدتين ترفعان كفناً مغطى بالورود، وهذه اللوحة محفوظة اليوم كذلك في "غاليري والكر"، في ليفربول.

يتكرّر الرقم تسعة في فصول "الحياة الجديدة"، وفي الختام، يخبرنا دانتي بأن بياتريشي رحلت عن هذه الدنيا "في الساعة الأولى من اليوم التاسع من الشهر حسب التقويم العربي"، وفي الشهر التاسع بحسب التقويم المحلي، في العام "الذي كان الرقم تسعة قد كمل خلالها تسع مرات في القرن الذي جاءت فيه إلى الدنيا، الذي هو القرن الثالث عشر بالتقويم المسيحي". "كانت السماوات التي تتحرك تسعاً، وكان هذا الرقم في صحبة معها حتى يبين أنه عند ولادتها كانت السماوات التسع المتحركة في تناسق رائع في ما بينها". وجذر الرقم تسعة هو الرقم ثلاثة، "بما أنه إذ يضرب في ذاته يعطي، من دون مساعدة أي رقم آخر، الرقم تسعة". "ومضروب المعجزات بذاته هو الرقم ثلاثة، أعني الآب الابن والروح القدس، الذين هم ثلاثة وواحد في آن، فإن هذه السيدة كانت مصحوبة بهذا الرقم لكي يبين كانت الرقمة تسعة". وهكذا، كانت بياتريشي "معجزة، جذرها لا يمكن أن يكون إلا الثالوث الرائع".

"في ذلك اليوم الذي كانت قد اكتملت فيه السنة التي صارت فيها تلك السيدة مواطنة في الحياة الخالدة"، جلس دانتي في مكان ما، وراح يذكرها وهو يرسم "ملاكاً على بعض اللويحات"، وبينما كان يرسم هذا الملاك، ألتفت حوله، ورأى جمعاً من الناس ينظرون إلى ما كان يقوم به، فقام وقال لهم: "أحدهم كان معي الآن هنا، لذلك كنت أحلم"، وتغنّى من جديد بـ"السيدة الرائعة التي، لخصالها، وضعها الرب العلي في سماء الخشوع حيت توجد مريم". وقد استعاد غبريال روزاتي هذا المشهد في لوحة أنجزها العام 1853، وهي من محفوظات متحف "أشموليان" في مدينة أوكسفورد البريطانية.   

يروي دانتي في "الحياة الجديدة" قصة لقائه بملهمته بياتريشي، وفي "الكوميديا الإلهية"، تنزل بياتريشي لوهلة من الفردوس وتخرق حجب الجحيم لترسل الشاعر فيرجيل، كبير شعراء الرومان في القرن الأول قبل المسيح، ليقود دانتي في رحلته، ثم تظهر مرة ثانية عند نهاية طوافه في المطهر، وترشده في طرق الفردوس. وتحتاج هذه الرحلة إلى قراءة مستقلّة تعرّف بسلسلة محطاتها المثيرة.

يحتفظ متحف أوتاوا للفنون في كندا، بلوحة ثنائية أنجزها غبريال روزاتي بين 1853 و1863. في المشهد الأول، تظهر بياتريشي "في لباس ناصع البياض، بين سيدتين لطيفتين، كانتا تكبرانها سناً" كما تقول الكتابة المدونة في أسفل الصورة، وهي من "الحياة الجديدة". وفي المشهد الثاني، تظهر مرة أخرى في ثوب "في لون الشعلة المستعرة، تحت عباءة خضراء"، كما تقول الكتابة المرافقة، وهي من "المطهر".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها