الجمعة 2021/06/18

آخر تحديث: 12:40 (بيروت)

"كما أريد" لسماهر القاضي: بداية الحديث عن التحرش..مع الأم

الجمعة 2021/06/18
increase حجم الخط decrease
بيدها تداعب سماهر القاضي بطنها الذي يكبر يوماً بعد يوم. تغنّي تلك الأغنية التي اعتادت والدتها تردادها ويقول مطلعها، "لما قالوا لي ده ولد / إنشدّ حيلي وإتفرد /  لما قالوا دي بنية / مالت الحيطة عليا". ليست الأغنية الذكورية فقط ما تستحضره المخرجة من سيرة والدتها الراحلة، بل تدخل معها في محادثة، مثلما مع نفسها، ومخاوفها وشكوكها وماضيها. "لطالما قلتِ إن ولادة فتاة تعني هَمّاً مدى الحياة"، تقول الإبنة لأمّها في مونولوغها الغاضب والمُعاتِب.


نشأت المخرجة في مخيم للاجئين الفلسطينيين بالقرب من رام الله، لأسرة محافظة لقّنتها منذ الصغر تعاليم تبخس قيمة المرأة وحقّها في تقرير مصيرها. درست علم الاجتماع في جامعة القدس، وبدأت العمل مبكراً في وزارة الثقافة الفلسطينيّة، ثم وزارة الإعلام، قبل أن يعصف الدمار بالوزارتين في اجتياح جيش الاحتلال الإسرائيلي لرام الله، في فترة الانتفاضة الثانية، لتبزغ بداخلها رغبة مغادرة فلسطين. لم تكن السينما اهتماماً أساسياً لها، لكنها شكّلت منفذاً ملائماً للرحيل والإقامة في القاهرة، رغم معارضة أهلها وتهديد والدها لها بالقتل. قدمت القاضي إلى مصر العام 2003 بعد حصولها على منحة للدراسة في المعهد العالي للسينما، ولم تغادرها إلا في العام 2017 بعدما اتضح لها مدى السوء الذي وصل إليه الوضع بعد صعود عبد الفتاح السيسي إلى كرسي الرئاسة.

بين المغادرة والإقامة والرحيل من جديد، سيرة حياة متشعبة، في أولها ماضٍ لم ينته وحساب مفتوح لا يزال، ثم انتفاضة شعبية في بلد المُقام أطلقت أحلاماً كبيرة فقط ليشهد مرتكبوها اجهاضها ووأدها في المهد، وانتهاءً بمستقبل غائم يغدو تمنّيه لائقاً ومأموناً أملاً ساذجاً في أفضل الأحوال. لكن قبل أي شيء، وفي أثناء هذه المراحل كلها، ثمة مناخ اجتماعي كاره للنساء بشكل عام أشبه ما يكون بصيرورة حتمية لا خلاص منها، ومِزاج سياسي متقلّب لا أولوية لديه لقضاياهن إلا في ما يفيد "استقراره" وتثبيت أركانه، وبين هذا وذاك ضحايا/نساء "يَرُحنَ في الرجلين"، كما يقول المصريون.


"كما أريد"(*)، أول أفلام سماهر القاضي، مرآة ملائمة تماماً لمسارها الحياتي، بمزجه مستويات مختلفة فنياً وموضوعياً، بدءاً بالاحتجاجات السياسية في مصر، ونضال المرأة ضد العنف الجنسي، والتمييز الجنسي المتجذر اجتماعياً، وصولاً للتفكير في تاريخها العائلي ودورها كأمّ لولدين. ماذا لو رُزقت بفتاة؟ هل ستضطر ابنتها بعد ذلك إلى تجربة التحرش الجنسي طوال حياتها، كما هو الحال اليومي للمرأة في مصر؟ تشغل هذه الأسئلة القاضي، التي كانت حاملاً بطفلها الثاني عندما اغتُصبت صديقته المقرَّبة في الشارع ضمن اعتداءات جنسية جماعية شهدها ميدان التحرير في الذكرى الثانية لثورة 25 يناير، أثناء السنة اليتيمة من حكم الرئيس الإخواني محمد مرسي. تشاهد المخرجة لقطات من ذلك اليوم مع نساء أخريات: يحيط رجال بنساء مشاركات في تظاهرة احتجاجية نسوية، يمزقون ملابسهن، يستبيحونهن، بأصابعهم وأيديهم وآلات حادة. جريمة كاملة في وضح نهار القاهرة، أخطر مدينة في العالم تقريباً بالنسبة للنساء. في دراسة أممية صدرت العام 2015، أفاد 99% من النساء والفتيات المصريات المستطلع آراؤهن بأنَّهن تعرَّضن لتحرُّشات جنسية مرة واحدة على الأقل.

لا يحتاج الأمر دراسات ولا أبحاث ميدانية للوقوف على حجم الأزمة الكارثية. يكفي سؤال أي عابرة في شارع قاهري للاستماع إلى قصص مرعبة عن إساءات واعتداءات لفظية وجسدية يتعيّن عليها اختبارها يومياً. البطلات في "كما أريد" من النساء حصراً، ولا يصعب تصورهّن قرينات تلك العابرة القاهرية إياها. يُظهر الفيلم كيف يتجادلن وينتظمن ويتظاهرن بصوت عالٍ وغاضب وبسكاكين حادة يرفعنها في الهواء. تنزل معهن المخرجة إلى شوارع القاهرة، كاميرتها سلاحها ضد انفجار الإرهاب الجنسي المشحون سياسياً الذي اجتاح ميدان التحرير في لحظة ما. توثّق الاحتجاجات ومسيرات النساء المناهضة لثقافة الاغتصاب التي تلت ذلك، مثلما توثّق التحرش اليومي بالنساء في الشارع. رجال يقتربون من الفريسة المستباحة، فمطاردة وإيذاء وقنص، ثم تهديد وزجر ولوم. تتحدث إلى المارة والأطفال. يقول شاب "المرأة مثل الماس. مكانها في المنزل". تقول فتاة على أعتاب المراهقة إن زوجها سيطلّقها إذا خلعت حجابها (مثل المخرجة). "جسد المرأة عورة"، تقول صديقتها.

تراقب القاضي وتتأمل الوضع الإشكالي على مستويات مختلفة: من ناحية، التمييز الجنسي المتأصل اجتماعياً، ومن ناحية أخرى، الاعتداءات الصارخة وأحياناً المهددة لحياة النساء، العاديات منهن والناشطات سياسياً. العاملات في أحد المراكز الحقوقية ينتكهنّ: هل الاعتداءات منظَّمة وذات دوافع سياسية؟ هناك مؤشرات على أنها كذلك. هل هدفها تخويف النساء اللواتي لعبن دوراً مركزياً في الثورة؟ تترابط الأسئلة المعلّقة مع مخاوف المخرجة بشأن أوضاع النساء ومعاينة المتفرج لسوئها، داخل نسيج فيلمي يتراوح بين المقالي والنشاطي والريبورتاجي والسِيري.

من خلال ربط المستوى السردي الذاتي بالبنى السياسية والاجتماعية، يقدم الفيلم صورة متعددة الطبقات لحركة التحرر الداخلي والخارجي التي تشارك فيها النساء. توثّق القاضي نضالهن الذي يراقبه المشاهد بذهول وصدمة. صراع يحدث على جميع الجبهات، بما في ذلك داخل عائلاتهن. يُظهر الفيلم كيف يتوازى نضوج نجل المخرجة الأكبر، مع اكتشاف عالم والدته الخطير، ومع استمرار النساء في المطالبة بحقوقهن الأساسية والتوقف عن كنس المشكلات تحت السجادة. كيف ستعلّم الأم طفلها احترامَ المرأة؟ هل ستكون هناك مساواة في مرحلة ما؟ هذه أسئلة لا تقتصر حدودها على مصر فقط، ما يرفد الفيلم ببُعدٍ عالمي في موضوعه وطرحه، إذ تتشابه الأسباب الهيكلية لاضطهاد النساء في جميع أنحاء العالم.

تتعمق القاضي في تاريخها الشخصي لتبدأ إعادة نظر في بنيات طفولتها وكيف حُدّد مصيرها لمجرد أنها وُلدت أنثى. تروي ذكريات مؤلمة عن طفولتها، توضح العوائق التقليدية أمام الحرية الفردية التي تواجهها العديد من الفتيات في المجتمع العربي أثناء نضجهن. مستوحية من ملايين النساء اللواتي يرفعن أصواتهن ضد العنف بحقهن، تدرك القاضي أن مفتاح مستقبلها يكمن في مواجهة نفسها وماضيها. بفيلمها، تثبت القاضي أن طريق تحرّر النساء من التبعية والاستلاب الواقعين بحقهن لا تزال طويلة، ولا يحدّها تغيُّر نظام حكم في بلدٍ عاجز عن إنجاز استحقاقاته الأساسية، مثلما لا يجب أن يعيقها ثقل الإرث الثقافي والتواطؤ المجتمعي عن الحفر عميقاً لاجتراح مسار لكل المستضعفات - والمستضعفين - لتصفية حسابات الماضي وتعرية الذات وعلاجها.

تواصل المخرجة حديثها مع والدتها التي توفيت قبل أن تتمكن من زيارتها للمرة الأخيرة ومناقشتها حول مكانة المرأة. تقول الابنة "كان عمرك 16 عاماً عندما تزوجت"، متسائلة عن سبب ارتضائها بسجنها في بيتها، هي التي كانت تؤمن بأنّ المرأة مكانها البيت. لا يقدّم الفيلم إجابة، ولا يبدو حاسماً كذلك في موقفه من الأمّ، ما يفتح الباب لأكثر من تلقٍ يرى في ارتباك المخرجة أمام والدتها وإرثها، تراجعاً أو مثلباً يأخذ من تناولها الجذري لصراع الحقوق وامتلاك المصير، في الوقت الذي سيراه متفرجون نتيجة طبيعية وصادقة، في ضوء اختلاط النشاطي بالذاتي والمحسوم بالمُعلّق وما لا يُدرك كلّه بما لا يمكن إصلاحه.

المؤكد أن "كما أريد" عمل لازم وضروري، شجاعته أكبر من فصاحته وطموحه أبعد من مناله، وكان في الإمكان خروجه بشكل أكثر صقلاً ومتانة. إنما تكمن فضيلته الكبرى في جرأته على استكشاف جذور مسائل "نسائية" في مجتمعٍ لم يحسم بعد إشكاليات مبدئية وأساسية، وإعادة التذكير بمأزق المجتمعات المتخلّفة راسخة التقاليد والموروثات في لحظات تحولاتها السياسية المفصلية، عبر سردٍ "خام" وشفّاف وحميمي يموضع قضايا النساء وحقوقهن كأولوية وركيزة أساسية لأي تغيير اجتماعي-سياسي حقيقي. بدمج الذاتي بالعام، لم تكتف المخرجة بالدوران حول نفسها باستيهامات شخصية، بل ارتقت بنضالها الشخصي لبُعد جماعي يشمل مثيلاتها، ويثير أيضاً أسئلة لدى كل مهتم ومؤمن بالحرية كمسألة مبدأ وقيمة متكاملة لا يستقيم معها النضال ضد ظلمٍ دون غيره أو تجاهل معاناة "الآخرين" في خضم السعي نحو حريتـ(نا).

(*) "كما أريد" (إنتاج مشترك بين مصر وفلسطين وفرنسا وألمانيا والنروج، 2021، (88 دقيقة)، عُرض ضمن قسم "لقاءات"، في الدورة الأخيرة لـ"مهرجان برلين السينمائي".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها