- في "تاريخ موجز" تبدو الكتابة عن الكتاب المقدس وترجماته كأنها نواة لشيء آخر، من أين جاءت فكرة الربط بينها وبين الحكاية الأصلية للرواية؟ هل كان ذلك مخططاً قبل الكتابة أم خلالها؟ وهل كان العنوان نتاجاً لهذا الدمج أم كان سابقاً للكتابة من الأساس؟
نورثرب فراي، في كتابه الأهم "المدونة الكبرى"، يدعي أن الكتاب المقدس هو أصل كل أدب بمعناه الحديث كما نفهمه اليوم. وطبعاً، على ما في هذه النظرية من مركزية أوروبية ضيقة الأفق، لكنها تنطبق بشكل جزئي على الرواية، والتي تستلهم أو تعيد كتابة قصة هاجر وإسماعيل التوراتية، الأم الهاربة أو التائهة في الصحراء مع ابنها، لذلك الإشارة إلى لغة الكتاب المقدس ليست عرضية وليست بعيدة من خط القصة هذا. تطرح الرواية عبر فصولها تاريخاً للغة، بطريقة ترقيعية، وسط السرد، وهذه النموذج الترقيعي هو ما يصفه فراي في وصفه للكتاب المقدس بالخليط وتداخل لأجناس وأساليب وموضوعات وقوالب أدبية، أو ما سيطلق عليه آخرون بتعريفات مختلفة: التأليف البوليفيني. تسعى الرواية من بين أشياء أخرى كثيرة لاستكشاف علاقة الأقباط بالعالم، لا بمشروع الدولة الوطنية فقط، لكن أيضاً بالمشروع التوسعي الغربي، ممثلاً في أحد وجوهه في الإرساليات البروتستانتية، المدارس ودور رعاية الأيتام والمطابع والكليات، وأهم ما تركه هذا المشروع وراءه، وهو الكنائس التي تمصّرت بالكامل، وترجمة فان دايك للكتاب المقدس، التي رسمت المخيلة اللغوية لمعظم الأقباط في القرن الماضي. هذه الترجمة تقف وراءها فلسفة كاملة في فهم اللغة، وسحريتها، ودورها في تشكيل الحدود الاجتماعية لأقلية داخل الوسط اللغوي للجماعة الوطنية، هذا جزء مما تحاول الرواية استكشافه سواء في مضمونها، أو باللغة المكتوبة بها، وهي لغة ترقيعية أيضاً بالمعنى نفسه، تخلط الفصيح بالعامي، القاهري بالصعيدي المزيف، بفصحى الكتاب المقدس وعجمتها المتعمدة. وبالفعل كما تقول، عنوان الرواية تركيز لهذه الفكرة، سردان، واحد عن تاريخ اللغة بوصفها أصل الخليقة، أي كن فيكون، والثاني للمكان وهو شرق القاهرة وما يجري فيه.
- كنت موفقاً جداً في كثير من المواضع التي تصف فيها تفكير الطفل في مواقف شديدة الحميمية والخطورة، لكن يعيب البعض على الوعى الزائد للطفل/الراوي في كثير من المواضع الأخرى.
السارد في الرواية لا يفترض به أن يكون طفلاً، بالتأكيد لا يوجد طفل سيتكلم عن اللغة بمصطلحات ما بعد بنيوية. ببساطة السارد بالغ يتكلم عن طفولته، يقدم تفسيراته وتصوراته وذاكرته ربما المزيفة أو المضاف إليها عن أحداث الماضي. وهذا ما يفسر التفاوت في وعي السارد خلال السرد.
- يعارض العمل الرواية الرسمية التي لا تركز على مسألة الطائفية في أحداث الأمن المركزي، بل ينتقد العمل هذه الرواية أيضاً، هل تقدم الرواية كبديل للتاريخ؟ هل تصلح الرواية لهذا الدور؟
الملحمة هي الأصل الذي تفرعت منها ثلاثة مسارات لاحقة، الأسطورة الدينية، والأدب، وآخرها التاريخ. الحقيقة التاريخ النظامي المدوّن، كما نفهمه اليوم، هو مهنة حديثة جداً، وفي أوطاننا لا يتعدى القرن ونصف القرن مثلاً. أما التاريخ السابق على الحداثة، فكان فرعاً من فروع الأدب بشكل ضمني، حتى في الجامعات اليوم تضم أقسام الإنسانيات، الأدب والتاريخ معاً، بسب هذه العلاقة القديمة. كانت هناك طبعاً محاولات حثيثة من قبل المؤرخين لتأكيد الموضوعية والحياد وخلافه، قبل أن تعود تيارات واسعة في التأريخ المعاصر، لاستلهام الأساليب الأدبية في تدوين التاريخ، وهناك مدارس تاريخية كاملة اليوم قائمة على مفهوم "السرد" وتفكيكه و"السرد المضاد"، أقصد أن التاريخ هو الذي يستلهم الأدب في الحقيقة، وليس العكس، أو هو فرع من فروعه بمعنى آخر. أما "تاريخ موجز للخليقة وشرق القاهرة" فهي تاريخ مختلق بالكامل كما تقول في البداية، لكن حقيقي أيضاً بالكامل!
- هناك خلاف حول موضوع الرواية الرئيسي، هل هي عن أزمة جيل الثمانينات، عن أحداث العنف الطائفي، العنف الزوجي؟.. اجتماعية أم سياسية؟.. إلخ هل تشغلك هذه التصنيفات؟ هل يهمك أن يناقش/يعالج العمل الروائي قضية بعينها؟
كتب لي أحد القراء ليخبرني بأنه فهم الموضوع المخفي للرواية، وهو المثلية، وكان هذا مفاجئاً جداً لي، لكنه قدم لي تفسيراً مقنعاً تماماً ومدهشاً، فهناك علاقة غامضة وعصية على الفهم بين الأب والأخ عزيز، وهناك نوع من الشبق في وصف الطفل لعم رجائي، ونفور واضح من جسد الأم الأنثوي. وحين راجعتُ هذه الخطوط وجدته محقاً. أعتقد أن كل الثيمات التي طرحتها صحيحة جداً وجائزة، وأكثر منها، وأعتقد أن ثراء أي عمل أدبي يمكن قياسه بمدى تعدد معانيه وثيماته وقراءاته وتشعّبها.
- بعد ثلاثة أعمال، لا تبدو مهتماً بتقديم نفسك كروائي! المتابع لحساباتك في مواقع التواصل مثلاً سيجد جدلاً لا ينتهى حول كل شيء تقريباً، لكن لن يجد شادي مروجاً لنفسه كروائي أو يستخدم حساباته لتوسيع قاعدة قرائه، إلا نادراً، بل على العكس لا تمانع من الاشتباك الذي يؤدي بالضرورة إلى خسارة بعض القراء! يهمني أن أعرف رؤيتك لهذه المسألة.
أنا لا أعرف من الذي يستحق لقب "روائي"، أقصد بعد كم رواية، أي شخص يمتلك 300 دولار مثلاً يستطيع أن ينشر رواية. أكتب الأدب كهواية، كما أحب صيد الأسماك والمشي، ولا أقدم نفسي كصياد أو مشّاء. روائي لقب براق، وهو مُغرٍ طبعاً، لكنه قد يكون مفرغاً من المعنى من ناحية أخرى. أتعامل مع الفايسبوك كحيز شخصي، ولا أعني الشخصي كمقابل للعام، بل كمقابل للمهني. أعوض العيش في المهجر بالتواصل مع أصدقاء افتراضيين، وبالجدل وبالسخرية معهم، ولا أريد أن أفسد هذا بتحويله إلى منصة مهنية أو للتسويق، أشارك أخباراً عن رواياتي وتعليقات عليها بالطبع، لكن من باب الاحتفاء والامتنان الشخصي.
- خضت معارك ضارية في فايسبوك مؤخراً حول الجوائز الأدبية، هل استطعت بعد هذا كله أن تكوّن وجهة نظر واضحة حولها؟
لدي موقف واحد من الجوائز من البداية، ادّعي أنه لم يتغير، وافترض أنه واضح أيضاً، وإن كان مركباً بعض الشيء بالنسبة للبعض، ربما، ولا يحظى بشعبية كبيرة في الوسط الأدبي. الجوائز بلا شك لها فوائد عديدة، ولا أعترض عليها في المطلق. ولست معنياً إن كانت الجوائز تساهم في ازدهار الحقل الأدبي أو العكس، ليس هذا ما يعنيني هنا. لكن لدي موقفاً أخلاقياً منها، وما أعنيه بالأخلاقي هنا هو السياسي، فكل ما هو أخلاقي بالنسبة إلي هو سياسي. وهذا الموقف ليس مؤسساً على كون الكتابة مهنة سامية أو نبيلة ولا أياً من هذا، بل هو مؤسس على حقيقة أنه على كل واحد منا، كفرد أولاً، وكمواطن ثانياً، وكعضو في جماعة اجتماعية أو مهنية، أن يكون مسؤولاً أخلاقياً. وفي منطقتنا تحديداً، لا نمتلك رفاهية أن نتجاهل السياسة أو نغمض عيوننا عنها، أو نفصل بين الجمالي والأخلاقي. وموقفي هذا ليس تطهرياً بأي شكل من الأشكال، في معظمه يستدعي الحد الأدنى من اللياقة، هناك أسئلة يجب طرحها، مَن يمنح الجائزة؟ وباسم مَن؟ ولماذا؟ يعني هل نقبل جائزة باسم ديكتاتور مثلاً؟ أو من أرباح تجارة السلاح أو الرقيق الأبيض؟ أو من نظام يخطف الكتّاب أو يعذبهم حتى الموت؟ أو متورط في إبادة جماعية؟ أتفهم أن هذه أسئلة نسبية والإجابة عليها ليست بالبساطة التي تبدو عليها. لكن معظم ما سمعته أثناء "المعارك الضارية" التي ذكرتها، لم يتعرض لنسبية الأسئلة وصعوبة إجابتها، بل ببساطة جاءت الإجابة: نحن نقبل كل الجوائز ومن أي كان، أو تمت شخصنة الموضوع ببساطة، وقيل أنت أيضاً ملوث فلا داعي لادعاء الشرف، كلنا نخطئ، كلنا مجرم. أما السؤال الأصلي، فلم يتصدّ له أحد، هل هناك معايير أخلاقية لتلقي الجوائز؟ وإن كانت الإجابة نعم، فما هي؟ ولا كلمة واحدة قيلت في الأمر.
كما قلت منذ قليل، لا أعتبر كتابة الروايات سوى هواية، وليست لدي طموحات مهنية بخصوص الأدب، وغير ذلك تستهويني إثارة الجدل والقلاقل والزوابع الصغيرة بروح ساخرة في معظم الوقت، ولا أمانع أن يرشح الناشر إحدى رواياتي لجائزة بعينها (أهاجمها طول الوقت)، بدافع الفضول، وربما على أمل شبه مستحيل للفوز بها حتى أرفضها علناً، لست أكثر وقاراً من صنع الله إبراهيم مثلاً، وهو فعل شيئاً مشابهاً، وأجد ما فعله مثيراً للإعجاب وملهماً، أي تحويل طقوس الرعاية والاعتراف التي تفرضها مراسم الجوائز إلى إعلان تمرد وإدانة. لكن لسوء الحظ، نيتي تلك خرجت للعلن لأسباب تعرفها، بالطبع الناشرون لن يقدموا على أي من الجوائز باسمي بعد اليوم، ولا ألومهم طبعاً، ولا يهمني في الأمر سوى خسارة بعض الإثارة الموسمية.
- ما الجديد لديك؟
لدي مشاريع عديدة، بعضها شبه منتهٍ وبعضها مازال في بدايته، لكن لدي انشغالات مهنية وشخصية ربما ستصرفني عن تلك المشاريع لفترة ليست بالقصيرة، ربما أنشر فصلاً من عمل بعنوان "موهن يذهب إلى جنة الفردوس" قريباً، وهذا كل شيء حالياً.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها