الأربعاء 2021/06/16

آخر تحديث: 15:19 (بيروت)

الكاتب بوصفه معلَماً سياحياً وسلعة للتداول

الأربعاء 2021/06/16
increase حجم الخط decrease
استغلت بلدية أوسلو الفرصة التي وفرتها جائحة كورونا، فلجأت إلى إعادة تأهيل بيت الكاتب المسرحي هنريك إبسن وتجديد متحفه. البيت، في الطابق الأول، والمتحف، في الطابق الثاني، يقعان في الشارع الذي أطلق عليه اسم الكاتب: شارع هنريك إبسن. الآن تم تجهيز البيت والمتحف بمبتكرات الثورة الرقمية وسيكون كل شيء جاهزاً حين تستأنف الحياة دورتها العادية وتستقبل المطارات الرحلات الآتية من العالم للسياحة في البلد الإسكندنافي الجميل.

يعاد تجديد وتأهيل وتلميع المعالم السياحية في البلد بشكل عام، وبيت الكاتب الشهير واحد من هذه المعالم. ليس بيته وحسب، بل كل ما يمت إليه بصِلة. أشياؤه الخاصة، قبعته، عصاه، نظارته ذات العدسة الواحدة، غليونه، الشوارع التي سار فيها.

لا يقتصر هذا الأمر، أي التعامل مع الكاتب كمعلم سياحي، على النروج. كل بلدان العالم تستخدم كتابها الكبار (وطبعاً فنانيها ورساميها ونحاتيها) كعدّة إضافية، وأساسية في بعض الحالات، في صناعة السياحة. تتحول البيوت التي ولد فيها الكتّاب، أو أقاموا فيها فترة، أو زاروها لسبب من الأسباب، إلى تحفة تستدعي الحفاظ عليها بأي ثمن. تصير ثروة وطنية. وتؤلف هذه الأماكن سبباً من أسباب إقبال الزوار عليها، إن لم يكن السبب الوحيد، في حالات كثيرة. فلولا وقوع المنزل الذي ولد فيه أرثر رامبو، لما قام السياح، في غالب الأحوال، بشد الرحال إلى بلدة شارفيل ميزيير، في شمال فرنسا. لو عمد أحد إلى حجز فندق هناك سيجد أن صفحة الإعلان عن الفندق تشير، من ضمن مزاياه، إلى مقدار بعده، أو قربه، من منزل الشاعر. لهذا السبب، على الأرجح، رفض أقارب الشاعر، وأهل البلدة، نقل رفاته إلى البانتيون، مقبرة العظماء في باريس، كما كانت وزيرة الثقافة وسواها قد طالبوا. رضخ الرئيس الفرنسي، ماكرون، وقال إنه لن يُنقل الرفات وسيبقى رامبو "مدفوناً إلى جانب عائلته في مدافن العائلة في مقبرة شارلفيل- ميزيير، مسقط رأسه وآخر مكان أقام فيه".

كثيرة هي المدن التي اقترنت، وتقترن أسماؤها بأسماء كتّاب ولدوا و/أو عاشوا فيها. 
لشبونة البرتغالية تكاد لا تُذكر إلا مقرونة باسم شاعرها العظيم فرناندو بيسوا، هو الذي بقي ملتصقاً بها، مخلصاً لها، متشبثاً بشوارعها وأزقتها وحاناتها حتى آخر لحظة من عمره.
في نهاية شارع غريت، روا غاريت، وأمام مقهى لا برازيليا، يقع تمثاله البرونزي، واضعاً ساقاً فوق ساق، بنظارتيه وقبعته وإلى جانبه كرسي فارغ، يتلهف السياح للجلوس فيه والتقاط الصور.

وزائر براغ، العاصمة التشيكية، سيجد كل الكتيبات السياحية تحدثه عن كافكا، وتقول: سوف ندلك إلى براغ كافكا، إلى حد أن من لا يعرفه سوف يظن أنه جزء من هندسة المدينة وعمرانها، أو حي من أحيائها الأثرية. بيت كافكا. متحف كافكا. مقهى كافكا. قبر كافكا. بل إن فندقاً شبابياً اختار اسمه من أجل جذب الزبائن. اليافطة المعلقة على بابه: أوتيل كافكا. يمكن السير إليه من ساحة وينسلاس بأقل من عشر دقائق وهو يقع على بعد خطوات من  الساعة الفلكية الشهيرة.

يحق لبراغ أن تفعل ذلك. أي مدينة في العالم لا تريد أن تكون لها حصة من كافكا وعوالمه؟ يحق لبراغ أن تفتخر بكافكا الذي ربط القدر مصيره بمصيرها: ولد وعاش فيها ولم يغادرها إلى أن توفي بالسل ودفن فيها.

تفتحت عينا كافكا على الدنيا في البيت رقم اثنين في شارع موتيني وسط المدينة القديمة، بالقرب من الساعة الفلكية. هناك عاش مع والديه هرمان وجولي وشقيقاته الثلاث. على مقربة من المكان، يقع مقهى آركو الذي كان المكان المفضل للقاءاته مع صديقه الحيميم ماكس برود. وفي الطريق إلى القطاع 21، ترتفع يافطة عليها سهم وكتابة: مقبرة كافكا. هي مقبرة أولنسكي اليهودية. هناك يرقد كافكا، وقد غطي قبره بأحجار بيضاء بسيطة وإلى جانبه مقبرتا والده ووالدته ولوحة صغيرة كتبت فيها أسماء شقيقياته اللواتي لقين حتفهن في محرقة أوشفيتز النازية.

"حين أموت ستبقى دبلن في قلبي". هذا قول جيمس جويس الذي اقترن اسمه بدبلن، هو الذي خلّدها في كل كتاباته وخصص مجموعته القصصية لأهاليها: "أهالي دبلن".

البيت الذي سكنه جويس، تحول إلى شبه مزار، يحج إليه قراؤه من أربع زوايا الأرض. والبيت الذي أوشك على الإنهيار قررت بلدية دبلن ترميمه. لكن البيت الأشهر الذي يشد السياح، هو ذلك الذي وصفه جويس في قصته "الأموات": البيت رقم 15 قرب الرصيف البحري لدبلن. كان مسكناً لعمات جويس ومدرسة للموسيقى ومكاناً أقمن فيه حفلات عشاء. وردت صورة مفصلة عن البيت في ما وصفه النقاد أعظم قصة قصيرة في كل العصور، أي قصة "الأموات"، ولذلك بات يسمى "منزل الأموات". هذا البيت بدوره كاد ينهار وبات بحاجة إلى ترميم، غير أن بلدية دبلن ترددت في القيام بذلك بل فكرت في هدمه وبنائه من جديد، فواجهت احتجاجاً شديداً من الأوساط الأدبية الإيرلندية والعالمية، ووقع 99 كاتباً بياناً ضد الاقتراح، بمن فيهم روني أوبراين وإيان ماك إيوان وسلمان رشدي. قال البيان "في العقود التي انقضت منذ وفاة جويس، ضاع الكثير من الأماكن التي أصبحت خالدة في كتاباته عن المدينة، فدعونا لا نكرر هذا الخطأ اليوم. تطوير المنزل سيدمر جزءاً أساسياً من التاريخ الثقافي لإيرلندا".

في أمستردام يعتبر البيت الذي سكنت، بل اختبأت،  فيه آن فرانك، قِبلة أبدية للزوار. حولت البلدية البيت إلى متحف. كانت آن في الثالثة عشرة من عمرها حين أضطرت أسرتها إلى ترك منزلها والهرب إلى بيت آخر بعيداً من أنظار النازيين الذين اجتاحوا هولندا. عاشت الأسرة هناك سنتين، وكانت آن تعتصم في عليته لتكتب يومياتها، إلى أن وشى بهم أحدهم فأُخذت إلى أوشفيتز.

يستقبل هذا البيت، المتحف، سنوياً أكثر من مليون زائر. يوميات آن فرانك باتت من الإيقونات الكتابية التي يكاد لا يخلو منها بيت. ارتبط اسم آن فرانك بأمستردام إلى الأبد. يزور البيت، المتحف، الملايين من حول العالم، وتنظم إليه رحلات لطلاب المدارس. إلى جانب زهور التوليب والقنوات المائية والجسور التي تغلق وتفتح وطواحين الهواء فإن بيت آن فرانك معلم أساسي من معالم أمستردام.

طواحين الهواء؟ من يمكن أن يزور إسبانيا من دون أن يبحث عن  الدروب التي سار فيها دون كيشوت وتابعه المخلص شانسو بانثا، ماضيان لمحاربة طواحين الهواء؟ من لا يقفف إجلالاً أمام البيت الذي سكن فيه رائد الرواية العالمية سربانتس؟ ومن يزور باريس من دون أن يفكر في زيارة كنيسة نوتردام ليرى الزوايا التي سكن فيها الأحدب كوازيمودو؟ اللائحة طويلة: كازانتزاكيس أثينا، وياشار كمال جبال طوروس، أورهان باموك اسطنبول، وقسطنطين كافافيس الإسكندرية…الخ.

أسماء الكتاب الكبار وبيوتهم والمقاهي التي جلسوا فيها والأماكن التي ترددوا عليها والشوارع التي ساروا فيها والمقابر التي دفنوا فيها، تحولت، بعد موتهم، إلى جزء أصيل من هوية المدن التي ولدوا فيها. ثم باتت، هذه الأشياء، مع الوقت، جزءاً من الأغراض الراسخة هناك والجاذبة للزوار.

تُطبع صور وأسماء الكتاب على فناجين قهوة وأوراق لعب، كوتشينة. في لندن يمكن أن يقف شكسبير وأوسكار وايلد وفرجينيا وولف وأميلي برونتي، وسواهم، على مجسمات منضدة بأناقة جنباً إلى جنب علب شاي أحمد، الماركة الشهيرة، وساعة بيغ بن والحرس الملكي بالخوذة العملاقة، كهدايا تذكارية.

السياحة مأخوذة بصناعة أصولها وفنونها وأغراضها، تتلقف الأشياء والأماكن والشخصيات، وتعيد تدويرها لتحولها إلى رصيدها في دنيا الرواج والفائدة.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها