الأربعاء 2021/06/16

آخر تحديث: 15:07 (بيروت)

مشعوذ الرؤوس المقطوعة

الأربعاء 2021/06/16
increase حجم الخط decrease
في حال أراد احد ما أن يوصي على رأسه المقطوع كتحفة، لا بد له أن يتوجه إلى الدائرة العاشرة في باريس، وتحديداً، إلى غاليري استحدثه سفاييروس (أو سفا-إيروس) فوق الكهف الذي يعيش فيه مع مخلوقاته، من قبيل الشياطين والهياكل العظمية والكائنات المقرنة (صاحبة القرون)، التي يخلقها بيديه. ولمن لا يعرف سفاييروس، فهو بدايةً موسيقي، أسس فرقة aqua nebula oscillator، التي لطالما وعدت مستمعيها بالذهاب إلى ما تسميه دنيا موازية على متن الروك الذي تخلطه مع أصوات من طقوس دينية قديمة، أو مع أصوات تجلبها من سينما الرعب. لكن، في العام 2020، ترك سفاييروس هذه الفرقة، وقرر أن يستمر في بناء عالمه بمفرده، فأصدر ألبومه المعنون "إستلباس"، الذي قدم فيه موسيقى يصفها بالخوارقية، ومعها، فيديوهات مركبة على نحوها.

إلا أن سفاييروس ليس موسيقياً فحسب، بل هو شاعر أيضاً، ولهذا، يمكن الوقوع في مقطوعاته على ما يحبه من قصائد تعود لشعراء ملعونين، أو على ما يكتبه هو منها. وبين الموسيقى والشعر، سفاييروس نحات، ومصمم أزياء أيضاً... باختصار هو فعلاً يعيش في عالم خاص به، يتسم بكونه سُفلياً بالتأكيد، غير أن سُفليته هذه لا تختصره بالمطلق، فهو جمع الصوفية بالهلوسة، وجمع الشيطانية مع الأصولية الكنسية، وجمع الروحانية مع القوطية بنسختها الحديثة، وكل هذا يؤدي إلى إنتاج جوّه الذي يستقر على كونه مَوتِيّاً، على كونه ثناتوسي. ما هذه المَوتيّة؟

في الواقع، هي تصوُّر عن الكائن الإنسي بما هو كائن محكوم بموته. ولهذا، خالق هذا التصور، أي سفاييروس نفسه، يحاول من خلال تجسيده له أن يحمل كائنه إلى موته، أو بالأحرى أن يقدمه مثلما هو بعد بلوغه له. أول هذا التقديم هو جعله على إرَب، أي مقطعاً، تماماً كما هي حاله مع رؤوسه المبتورة، والمعلقة في الصالة. هذه الرؤوس، التي صنعها سفاييروس بالانطلاق من رؤوس حقيقية، أي انها تخص أناساً من صحبه، تبدو توقيفاً لحامليها السابقين على لحظة بعينها من لحظاتها الشعورية، مفادها السكون. فالناظر إلى هذه الرؤوس يلاحظ سكينتها، اطمئنانها، إغلاقها لجفونها بطريقة تشي بأنها مرتاحة، بأنها، وفي موتها، قد وصلت إلى السكينة. إنها رؤوس تخبر عن الموت أكثر مما تخبر عن قطعها، وفي أثناء ذلك، تشير، ومن عنوانها، أو اسمها، إلى أمر محدد. فعندما صنعها سفاييروس كان قد أبقى فيها من دم أو شَعر أو مَني حامليها السابقين، وهذا، كتوقيع منهم عليها. بالتالي، سمّاها وعنوَنها رؤوس الحمض النووي، بمعنى انها، وحتى لو قطعت من حامليها، فهي، وباشتمالها على توقيعهم فيها، تحل مكانهم. ثمة فيها من حياتهم بعد موتهم، ثمة فيها بقاياهم، التي، وإن لم تحركهم من جديد، فهذا لا يعني أن لا إمكانية لكي يولدوا منها. فالكائن الإنسي الذي يمثلونه، يولد من رأسه، ويولد في موته. هذه رسالة الرؤوس المعلقة على الأغلب، وهي، ومع بعثها بها، تحيل إلى كيفية ولادة هذا الكائن. كيف تحصل هذه الولادة؟

بين التاسعة والحادية عشرة مساءً، وفي الصالة نفسها، ينظم سفاييروس ما يسميه "مسرح الدم"، حيث تتجاور تلك الرؤوس مع مخلوقات، لتسهيل تحديدها، يمكن وصفها بالجحيمية. تقترب هذه المخلوقات من الرؤوس، تتجمد إلى جانبها، تروح وتجيء بالقرب منها، تحاول لمسها، وبهذا، تبدو أنها تحاول التواصل معها. فيمكن الظن أن هذه المخلوقات هي من حاملي تلك الرؤوس في السابق، وها هي قد ولدت بالقرب منها، ولم يبقَ لها لكي تستكمل ولادتها سوى أن تركّبها على أجسادها. وهذا، وفي مكان رؤوسها، نبتت لها قرون.

كما يمكن الظن ان هذا المخلوقات هم حاملو الرؤوس هؤلاء، وها هم ينفصلون بالكامل عن رؤوسهم، ليولدوا من دونها، وفي النتيجة، هم يمارسون طقس الإبتعاد عنها، بحيث انهم لا يحتاجون إليها. فعلياً، ولادة هذه المخلوقات، وأياً كان سياقها، تدور على نحوٍ يُشابه السحر الأسود. فالجو الموتيّ في إثر هذه الولادة يتحول إلى جو من الشعوذة التامة، وسرعان ما ينتهي إلى سفاييروس الذي يقف ثابتاً بالقرب من مجسمه الجالس على الكرسي.

يخلص مسرح سفاييروس الطقوسي إلى ما يشبه التفتيش عن الموت، وهذا، في نتيجة طرحه لموضوع تقليدي، يرتبط بالاستنساخ. فهذه العملية الجينية تقتل الموت، تضع حداً له، وبهذا، يبدو سفاييروس انه يقف إلى جانبه في مواجهتها، فهو يريد أن يحافظ عليه، وعلى طقوسه، كما يريد أن يبقي على معناه بما هو مذهب إلى بعده المجهول، وبالتالي، محرك لتخيله. فسفاييروس، هذا المشعوذ الباريسي، وإن بدا أحياناً على جمالية لا تمكُّن فيها، فهو ينذر كل عيشه من أجل الموت، من أجل أن يكون قرصانه.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها