الأحد 2021/06/13

آخر تحديث: 08:41 (بيروت)

فخري البارودي في رحلته الأوروبية... حبيب الأكابر والصعاليك

الأحد 2021/06/13
increase حجم الخط decrease
بقليل من المقارنة والمتابعة، يمكن اعتبار كتاب "الرحلة الأوروبية 1911-1912" للزعيم الوطني فخري البارودي، الذي حققه وقدّم له الروائي والشاعر السوري إبراهيم الجبين، واحداً من أهم الإصدارات الحديثة التي تراجع حيثيات مرحلة مهمة من تاريخ سوريا، وتربطها مع واقع القارة الأوروبية، قبل سنتين من اندلاع الحرب العالمية الأولى، والتي تغيرت مع نهايتها خرائط المنطقة، فتجعدت أوراقها، وصار لبلاد الشرق وجوه كثيرة، يصعب مع توالي النوائب والكوارث، تبيان ملامحها!



55 سنة مرت على رحيل من لقبه مواطنوه بـ"شيخ الشباب"، الزعيم السوري  الأكثر شعبية بين أقرانه ولأكثر من نصف قرن، الذي مازالت الحكايات التي تروى عنه، تجذب السوريين، وتستدعي منهم العودة لقراءة ما يتيسر لهم من تفاصيل، يتجدد صداها، بين الطرافة والظرافة، وبين أنموذج منشود للقامات الوطنية، يتحسر كثيرون على عدم تكرار أمثاله في التاريخ، لكنهم لا يملون من محاولات إعادة تشكيله، ولو عبر السرديات اليومية والشعبية. يخدمهم في ذلك أن الرجل كان حاضراً في سياق حياة السوريين في فضاءات شتى، تمتد من الفن والموسيقى، إلى الاقتصاد ومشاريع التنمية الوطنية، وصولاً إلى السياسة والتوجهات الليبرالية الوطنية، التي كافحت في مواجهة الأيديولوجيات، والقوى التسلطية التي حاولت السيطرة على الحياة العامة في وقت مبكر، ولكنها خسرت المعركة في النهاية، أمام العسكر الذين أودوا بالبلاد إلى الهاوية!

غاب فخري بك، لكنه بقي حاضراً يفرض مزاجه على قراء سيرته، المكرسة إن كان في مذكراته الشخصية الناقصة (جزآن من أصل سبعة، إذ فقد البقية في حريق منزله) أو في الكتابين اللذين حملا عنوان "أوراق ومذكرات فخري البارودي" اللذين أعدتهما دعد الحكيم مديرة متحف دمشق التاريخي مما بقي من أوراقه فصدرا عام 1999، أو في المستخلصات التي يشتغل عليها سوريون أو عرب ليحكوا من خلالها عن تفاصيل لا يعرفها مواطنوه،  لقد انتهت حياته عام 1966 وسط اشتداد الصراع على حكم سوريا بين أجنحة حزب البعث، فضاع الاهتمام بتوثيقها، لفترة طويلة، وكأنما كان فقدانه لغالبية وثائقه وأوراقه في حريق داره في منطقة كيوان، إثر قصفها من قبل حامية مبنى الأركان في دمشق، بحجة اطلاق الانقلابيين (ناصريون يحاولون الإطاحة بحكم البعث) النار منها!

كناية، أو تمثل سيري، للكارثة الوطنية بشكل عام، لكن البارودي نفسه لم يكن يتلقى المصائب بمثل هذا المزاج الميلودرامي، حتى في طريقة سرده للقصة حيث رواها بإيقاع طريف فقال: "غادرت دمشق في الساعة الثالثة بعد الظهر في يوم السبت الواقع في13 تموز عام 1963، وبعد مرور بضعة أيام قامت في دمشق حركة انقلابية دخل بعض الثوار في يوم الخميس 18 تموز داري وأطلقوا الرصاص على دائرة الأركان المقابلة لها، فأجابتهم حاميتها بنيران شديدة، فأصابت بعض القنابل داري فاحترقت كلها مع مكتبتي، ولم يسلم من كتبي إلا التي اصطحبتها وهي بعض القواميس والكتب اللازمة للتسلية لبضعة أسابيع"!

لقد مر زمن طويل منذ صدور أخر الكتب غير المكتملة الخاصة بالبارودي، وسوى إصدار مؤسسة هنداوي في عام 2017 باستعادة لكتاب "الطبيخ" لمحمد بن الحسن بن محمد البغدادي الذي قام بتحقيقه وأضاف عليه معجم المآكل الدمشقية"، ونشره إلكترونياً، فإن غياب مؤلفاته، عن القراء، يعيد مرة أخرى وفي زمن الانتفاضة الثورية السورية، تكريس رؤية غير عادلة للتاريخ السوري، لا ترى فيه سوى النضالات الاستقلالية، وهيمنة العسكر على الحياة السياسية، فتتجاهل إرث الطبقة السياسية التي حكمت البلاد قبل الوحدة مع مصر، وإذ قدر لها أن تستعيد شخصياتها فإنها لا تنظر إليها كتيار بل كأفراد طرفاء وظرفاء، مع خلق صورة سلبية في غالب الأحيان مردها جعله هؤلاء ممثلين للإقطاع سابقاً، وللبرجوازية السورية لاحقاً!

البارودي، ومن بين أفراد هذه الطبقة كلها، عومل بشكل جيد نسبياً في الإعلام الرسمي السوري، فكان حاضراً في المرويات المناسباتية، ولاسيما منها تلك التي برزت في سياق المواجهات مع الفرنسيين وعلى وجه الخصوص حادثة الهجوم على البرلمان السوري عام 1945 حيث يجد الجمهور جزءاً من لقاء مصوّر معه في عام 1960 منشوراً على موقع يوتيوب، لكن انتزاع مقاطع سردية من سياقها، يعني بشكل أو بأخر إهمالاً شبه متعمد للسياق ذاته، أو رغبة معلنة أو مضمرة لإتلافه، فما الذي يحتويه نهره من تفاصيل كي يتم تجاهله، أو على الأقل تصويره كساقية تجري مياهها خلف الزواريب؟

وفضلاً عن أن الرجل لم تتم قراءة حياته وتفاصيلها كما يجب، وبمروحة اهتماماته المتعددة، فإن القارئ سيجد نفسه وبعد أن يكون مضطراً للبحث في عشرات المقالات التي ينشرها مهتمون بالموسيقى، في مواجهة شخصية مكرسة لجهة الظرافة وصناعة البهجة، مع إغماض عن جزئيات مهمة تكشف عن جوهر ومضمون المرحلة التي صُنع فيها استقلال سوريا.

ومن هذه الزاوية، فإن كتاب "الرحلة الأوروبية" الذي يقع في 440 صفحة من القطع الكبير، وفاز بجائزة ابن بطوطة لتحقيق المخطوطات (2021)، يحوز أهمية خاصة، تتجاوز وقائع الرحلة التي استلها محققه من مذكراته، فهو إنشاء سيري، يريد الوقوف على أرض صلبة، مؤلفة من مداميك حكاية الوطن السوري خلال مئة سنة، لينطلق منها إلى فحص السياسة والمغامرة والشجاعة والثقافة في مساراتها الموازية، وعبر تجربة واحد من أبرز الرجالات الذين عبروا في هذا السياق.

هنا، يستغل ابراهيم الجبين الفرصة، ضمن تكوين مفردات شغله كمحقق للنص، المستل من المذكرات، ليجعل منه، محاولة لمراجعة التاريخ، ضمن قصدية لا يخفيها، تتمثل بمعاودة الحديث عن دور دمشق التاريخي كحاضرة وعاصمة مشرقية، كان الانتماء إليها في وقت ما يمنح صاحبه القدرة على عبور الحدود، طالما أن المدينة تمثل قوة اقتصادية، تستطيع من خلالها احتلال موقع مركزي، ليس فقط ضمن حدود السلطنة العثمانية مترامية الأطراف، بل ضمن الفضاء العام القديم الطامح لاستعادة قدراته الحضارية والثقافية، مع محاولات للنهوض الاقتصادي، تنتظر الحسم على المستوى السياسي المحلي (صراعات القوى السياسية التركية على الحكم) لتختار طريقها، فإما أن تنهض ضمن مشروع الاتحاد العثماني وإما تمضي وحيدة في دربها!

البارودي، ذهب في رحلته إلى أوروبا بقصد دراسة الهندسة الزراعية، استناداً إلى ملكية عائلته لأراضٍ واسعة في مدينة دوما وغيرها، لكن تعارض رغبته مع رؤية والده، جعله يستنكف عن إكمال مشروعه الدراسي، فحوّل وجوده في فرنسا التي قصدها أولاً، إلى منطلق لعبور القارة العجوز من غربها إلى شرقها، وصولاً إلى الأستانة.

وضمن هذا المسار سيفسح المحقق المجال للقارئ كي يقرأ ويمحص في خلفيات للشخصيات التي تمر سريعة، فيقوم بتوسيع الحيز الشخصي للشخصية الشابة، ليستوعب حضور الآخرين الذين ساهموا في صناعة تكوينه الذهني وجعل المثاقفة (بمضمون المصطلح الأصل كعلاقة تبادلية بين طرفين) وسيلة للنهوض بسوريا، في مرحلة التأهب للانطلاق إلى المستقبل.

هنا يمكن تصور الأمر على شكل موجات دفاقة من الأحلام والمشاريع الفردية، التي تحاول مزج الشخصي بالعام، عبر نقل الصعود الحضاري الأوروبي إلى بلدان المشرق، وتمثل التجارب الغربية تقنياً وثقافياً وسياسياً، لكنها قوبلت أولاً بعقبات سياسية كأداء، ضمن تكوين الدولة العثمانية ذاتها، ما أدى إلى إعدام العشرات من الرجال الوطنيين العرب على يد جمال باشا السفاح وعصبة الاتحاديين، ثم جرى مصادرتها على يد الانتداب الفرنسي، الذي دمر أول تجربة ديموقراطية في المشرق، حينما أطاح بحكومة دمشق الوليدة، وأنهى الحكم الملكي، وصولاً إلى مرحلة ما بعد الاستقلال، حينما جرت مصادرة مشروع الدولة الوطنية، من قبل الحكم العسكري في مرحلة الانقلابات، ومن ثم في مرحلة الوحدة مع مصر، وما تلاها من سيطرة البعثيين على السلطة.

غير أن تكرار الحديث عن هذه الوقائع التاريخية يبدو عاماً جداً، ويحتاج إلى وضع علاقة البارودي وغيره مع المجتمع، ومع بؤر السيطرة، ومراكز القوى، تحت مجهر الفحص، حيث يقدم إبراهيم الجبين مساحة أوسع مما هو متوقع من مجرد تحقيق وقائع الرحلة، فهو يجعلها مفتاحاً لقراءة رجع صدى أفكار فخري بك عن التنمية والتطور الحضاري، فيتتبع مسار فعالية الشخصية التي جمعت بين "الثقافة والوطنية والتنمية"، ضمن مرحلة نضالات الاستقلال، واستهدافه من قبل المحتلين، وصولاً إلى لجوئه إلى الأردن، حيث تعرض لتجارب مزعجة، في علاقته مع بلاط الملك عبد الله، وحاشيته، بالإضافة إلى إهمال رفاقه في الكتلة الوطنية لقضيته القانونية، وكأنهم يتعمدون إبعاده عن المشهد، ما أدى في المحصلة إلى انكفاء الرجل عن العمل السياسي، وتوجهه إلى العمل المجتمعي والفني، لكنه لم يجد الدرب مفروشاً بالورود، ففي هذا المسار سيواجه المرء وكما يجري عادة في البيئات المحلية، علاقات مبنية على دوافع معقدة يتراكب فيها الشخصي مع العائلي مع الانتماء الأيديولوجي، ليجد أن معارضة مشاريعه الثقافية والفنية، تأتي من رفاق دربه أنفسهم! كما أن دوافع غامضة ستجعل من مشروع المعهد الموسيقي عام 1948 مكسر عصا للقوى السياسية في المجلس النيابي، حيث رفض الأعضاء الاستمرار في تمويله، بعد قرار وزير المعارف ميشيل عفلق شطبه من الموازنة العامة، بحجة عدم الجدوى، ما أدى إلى استقالة البارودي من المجلس احتجاجاً!

يرثي الكتاب، ومن خلال أجزاء مبعثرة من السيرة، المكان الدمشقي، إن في تتبعه لأمكنته؛ بيت قنوات، بيت كيوان، أو في تأمل بيوت المنفى الأردني، وقبلها بيوت سكنه في رحلته، ويخال للمرء في الكثير من تقابلات المرايا بين تجربة شيخ الشباب وتجارب آخرين عبروا الفضاء الدمشقي ذاته، أن المكان ههنا، غير مفهوم أو قابل للإدراك، من دون حضور شخوصه الخُلّص فيه!

وقد تصلح بعض المراثي التي قيلت في البارودي لأن تكون مفاتيح لاستيعاب حضوره في المدينة وحضورها فيه، ومنها كلمة أحمد صافي النجفي التي قال فيها: "ماتَ وجهُ دمشق، مات كرمُ دمشق، مات أناقة دمشق، مات وفاء دمشق، مات ظُرف دمشق، مات إنسانية دمشق، مات المساهم الأكبر في استقلال سورية والمساهم في استقلال البلاد العربية، مات قائل بلاد العرب أوطاني، مات شاعر دمشق بأعماله وروحه وحديثه، مات المتفقد للمعوزين والمستورين في دمشق، مات العطف واللطف في دمشق، مات عنوان دمشق، مات هالة دمشق، مات زعيم دمشق، مات نادي دمشق، مات محبوب دمشق، مات زهرةُ دمشق، مات فخر دمشق، مات من لا تجد بديلاً عنه دمشق، ماتت ذكريات دمشق الجميلة، امّحت آخر صورة لدمشق القديمة، مات كعبة الظرفاء، مات محجّة الفنانين، مات مقصد الأدباء، مات مقصد الوفود، مات صديق الجميع، مات محبوب الجميع، مات الموحّد بين الأرستقراطية والديمقراطية، مات حبيب الأكابر والصعاليك، مات حبيب الشعب، مات زعيم الشعب، مات من لا تموت ذكرياته، مات من لا ينتهي الكلام عن مزاياه، مات من لا تكفي الدموع لبكاه، مات من شخصه مطبوع في القلوب، مات زين دمشق، مات شباب دمشق، مات عطر دمشق، مات خمر دمشق، مات مجد دمشق، مات فخري البارودي".

محقق الكتاب لا يكتفي بإعادة القارئ إلى زمن شخصيته، بل يستعيد أرواح من مرّوا في سياق زمنها ومن حاولوا تثبيت مكانتها في التاريخ السوري، ومن بينها، يتقدم المخرج الراحل نبيل المالح، ليكون حاضراً منذ صفحات الكتاب الأولى، فقد حلم بأن يعرض فيلمه عن شيخ الشباب في صالات العالم كله.


الصفحات كلها تجعل من دمشق قضيتها، فالكتاب وبحسب الجبين مهدى لها أولاً وأخيراً، فلولاها لما كان لشخصية كهذه، وغيرها من أقران وحلفاء وأعداء، أن يكونوا في فضاء واحد، فدمشق "هي الآية الأزلية التي تصنع المعجزات. وهي الجبل الذي تنحدر منه الدروب إلى أنهارها السبعة. وهي الطرقات المرصوفة بالحجر تندفع عبرها الأرواح".

 

  • ·       كتاب "الرحلة الأوروبية، 1911-1912، من دمشق إلى روما، باريس، ميونيخ، فيينا، بلغراد، بودابست، صوفيا، إستانبول" لفخري البارودي، وهو الكتاب الحائز على جائزة ابن بطوطة لتحقيق المخطوطات 2021.
  • ·       تحقيق وتقديم إبراهيم الجبين
  • ·       440 صفحة من القطع الكبير
  • ·       المؤسسة العربية للدراسات والنشر

 

 

 

 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها