السبت 2021/06/12

آخر تحديث: 12:48 (بيروت)

انتكاسة الكوميكس في مصر..

السبت 2021/06/12
increase حجم الخط decrease
للكوميكس، مع المصريين على وجه التحديد، علاقة خاصة. فهذا "الفن التاسع" الذي يقرأ الأحداث والشخوص وكل ما يجري على مسرح الواقع، من خلال اللغة البصرية والقصص والرسوم والأشرطة المصوّرة واللقطات المعبّرة، له جذور فرعونية، قبل أن يغدو في القرن الحادي والعشرين أحد الفنون القريبة للغاية من الذوق الشعبي؛ محليًّا وعربيًّا وعالميًّا، حيث مثّلت القصص المرسومة في معابد قدماء المصريين أقدم نماذج للكوميكس عرفتها البشرية.

من جانب آخر، فإن الكوميكس واحد من أبرز الفنون التي انطلقت مع ثورة 25 يناير 2011، والثورات العربية، في فضاء الحلم بالتغيير والتحرر وتجاوز الأوضاع السائدة والموروثات العقيمة والمفاهيم الراكدة، وتفكيك المركزيات الجاثمة على الصدور، واقتلاع جذور الفساد والتسلط والأبوية. فكان الفن التاسع مواكبًا للحراك المجتمعي في الشارع، ونبض الميادين المتفجرة حماسًا وأملًا، والمتطلعة إلى غدٍ أفضل على كل المستويات.

مع انفجار الثورات العربية، وفي أعقابها، نصّب المبدعون الشباب "الكوميكس" فنًّا للغضب، ذلك أنه فن الحياة، والحياة برمتها باتت بركانًا ملتهبًا وألسنة نيران متصاعدة. وتوالت إصدارات الكوميكس بين مجلات وكتب ونشرات وسلاسل ذائعة الصيت من قبيل "توك توك"، "الفن التاسع"، "العصبة"، "جراج"،"مجنون"، "الشكمجية"، "فوت علينا بكره"، "قالك فين"، فضلًا عن الإصدارات الإلكترونية عبر الإنترنت. وتمكن الفنانون الشباب من إحداث حركة حقيقية في فضاء المشهد، برسوم وقصص وأخيلة جديدة، تسخر من الأمور السلبية، سياسية واجتماعية واقتصادية وإدارية، وتنتقد بجسارة كل ما يتعارض مع المنطق ويجافي الصواب، بهدف الإصلاح والبناء لا التثبيط والهدم، وتثير القضايا العميقة الملحّة، على الأصعدة المحلية والعربية، وكذلك الموضوعات الإنسانية العامة، والهموم الفردية الخاصة، من دون أي سقف للتحرر أو حد للجرأة التعبيرية، الأمر الذي أوصل الفن المثير إلى ذروة النضج بسرعة فائقة.



لم يكن الكوميكس وقتها ليقبل الحلول الوسطى، لأنه اقترن بالانفلات والانطلاق والتحليق في مدارات عليا خارج التوقعات، وارتاد آفاق لا تبلغها الفنون البصرية الأخرى من التمرد والتجرؤ والحدة والتطوير والتجريب وكسر التشابه والنمطية، واستشراف مستجدات الواقع وتحولات المجتمع، فعُرف بأنه فن الهواء الطلق والأنفاس الملتهبة، ومرآة مفتوحة على الشارع بشكل مباشر، بما يعنيه هذا الشارع من حساسية ثورية وزخم وزحام وصراع واشتباك.

لقد مثّل الكوميكس انحرافًا حقيقيًّا في مسار الفنون التشكيلية ورسوم الكاريكاتير والسخرية، شأنه شأن الغرافيتي والفنون الحية المعاصرة، الملتصقة بالناس، والقائمة على سواعد الشباب المتحمسين. ومن خلال خطوطه وألوانه وحروفه وقصصه المصوّرة، يتوزع العالم الجديد من حولنا، بكل ما فيه من جنون، ومساحات متناقضة متشابكة بين الآلام والآمال، والقتامة والإضاءة، والخيال والحقيقة، ويجد المهمّشون والضائعون والمأزومون والمسحوقون والسجناء والمقموعون أدوارًا قد لا يحصلون عليها في حياتهم الباهتة، ومتنفسًا قد لا يبلغونه في حاضر خانق.

تمكّن الكوميكس من إحداث حالة حراك مشهودة على صعيد الإبداع السردي البصري من جهة، وفي مجال الطباعة والنشر أيضًا من جهة أخرى، عن طريق عناوين إصدارات الكوميكس المنوّعة من الكتب والمجلات التي ملأت المعارض والفعاليات الدولية البارزة (كايرو كوميكس، أسبوع القاهرة للكوميكس، الخ)، إلى جانب بوابات ومواقع وصفحات الكوميكس المتعددة على شبكة الإنترنت، والسوشيال ميديا، التي استوعبت سيولة هذا الفن وتدفقاته وتمثلاته، الفردية والجماعية، التي تكسر فكرة المركزية بكل تاريخها الأبوي السلطوي البائد. واحتضنت ظاهرة الكوميكس جموح الشباب وثورات الشعوب وفضاءات الرقمية في آن، فالتفتت الثقافة المصرية، والعربية، إلى إرهاصات هؤلاء الرسّامين والحكّائين الجدد، وهذه السمات المتفردة للقصة وللصورة في أعمالهم المثيرة، واستكمل الفن وجوده وضرورته بالتخييل والفانتازيا، لتتجاور المتعة والإبهار إلى جانب القضية والقيمة والهدف المجتمعي والغاية الإنسانية، فهو فن البساطة والعمق في وقت واحد.

وبعد سنوات قليلة من الانتعاش والتوهج لفن الكوميكس بمصر، تبدلت الظروف المحيطة، واستجدت أمور قاسية في الساحة، لا سيما تقلص الحريات وانحسار هامش التعبير، وبات الفن التاسع كصورة للحياة القاتمة، مهددًا بالركود والانطفاء بفعل هذه المتغيرات العصيبة، ما لم يأخذ الفنانون الشباب على عواتقهم مهمة بعث هذا الفن من جديد والنهوض به، بآليات مبتكرة وأبجديات جديدة، ذكية، مراوغة، عصرية، مؤثرة. وهو ما يقومون به بالفعل قدر جهدهم في منشوراتهم الراهنة، وأعمالهم الحديثة، وإن بدت بطبيعة الحال أقلّ شراسة.

ويبدو أن الكوميكس المنتكس لا يقبل أن يستسلم تمامًا بسهولة رافعًا الراية البيضاء. فعلى الرغم من كافة المعوّقات والإحباطات وآليات التضييق والمنع والحصار، يناضل هذا الفن الشجاع لكي يبقى "خارج السيطرة"، مثل عنوان أحد الكتب الجماعية التي صدرت بمصر لهذا الفن الجديد العنيد، القادر على الإشعاع والتفجر، في أحلك الأجواء وأبردها.

وإذا كانت الحرية والحراك الشعبي وثورة الطباعة والتكنولوجيا والاتصالات والسوشيال ميديا من أبرز منصّات إطلاق"الفن التاسع" وتحليقه عاليًا بالتزامن مع موجات الربيع العربي، فإن الفترة الأخيرة اقترنت بإجراءات رسمية وإدارية في الاتجاه المعاكس، مناهضة لفن "الكوميكس" الجريء المغامر، منها نفض المؤسسات الحكومية ودور النشر الرسمية والصحف القومية أيديها عن دعم هذا الفن، واضطرار الفنانين إلى تسويق أعمالهم بأنفسهم، فضلًا عن إلغاء الكثير من فعاليات الكوميكس وملتقياته العربية والدولية.

كذلك، حوصرت كل أنماط النقد السياسي باعتبارها جرائم وخروجًا عن الوطنية، وهو الأمر الذي دفع بعض فناني الجيل الجديد إلى استشراف آفاق ومجالات وموضوعات للكوميكس آمنة من الملاحقة والحظر، أو استخدام حيل ترميزية وإشارية، على غرار ما يفعله المسرح مثلًا في لجوئه إلى عجلة الماضي والشخصيات والأحداث التاريخية واللجوء إلى الإسقاط والأقنعة، وما إلى ذلك.

وبمطالعة نماذج متنوعة للكوميكس، في فترات المدّ الثوري الخصبة وفي اللحظة الحالية البائسة، لدى فنانين مصريين متحققين من أمثال عمرو عكاشة، إسلام أبو شادي، فريد ناجي، أحمد عبد المحسن، محمد وهبة الشناوي، وغيرهم، يتجلى بوضوح كيف تغيّرت أساليب التعبير وتقنياته ومجالاته وثيماته، فاتجه الكوميكس المعاصر إلى الأقنعة والرموز والصيغ المراوغة وغير المباشرة، خصوصًا في الانتقاد السياسي، تفاديًا للصدامات والمواجهات والمعارك الخاسرة.

وبعد مرحلة المعارض الكبرى والإصدارات العريضة والالتفاف الشعبيّ، تقلصّت فعاليات الكوميكس إلى أضيق الحدود، وكادت تنحسر في قوالب المناسبات والقضايا الاجتماعية، وغابت شحناته التحريضية الخلاقة ووسائله الاستثنائية في تحريك المشهد من خلال السخرية اللاذعة والاحتجاج والتعرية الصادمة ومخالفة المألوف. 

وعلى أية حال، يُحتسب لهؤلاء الفنانين، وغيرهم، تمسكهم حتى الرمق الأخير بإمكانية إنعاش فن الكوميكس، والتحايل على القيود الكائنة بشتى السبل التعبيرية والإجرائية، إلى جانب محاولة دمج الأدوات الحديثة والتكنولوجيا لتكون أداة أسهل في تنفيذ الأعمال الفنية، مثل الرسم الرقمي، وتطبيقات الموبايلات والشاشات الإلكترونية، لتوليد مساحة جديدة لنشر الأعمال "أون لاين"، من دون الحاجة إلى طباعتها.

لم يعد في إمكان فنان مثل عمرو عكاشة أن يقدم رسومًا جريئة كتلك التي انتقد فيها قبل ثورة يناير أخطاء مبارك وسيناريو التوريث والفساد السياسي، أو التي صوّر فيها رؤساء تونس ومصر وليبيا والبحرين واليمن وسوريا في مواجهة الاحتجاجات ببلادهم. ولم يعد في مقدور فريد ناجي الحديث صراحة عن إسقاط الخونة وتمجيد الشهداء كما فعل قبل سنوات. ولم يعد في استطاعة إسلام أبو شادي التعاطي المباشر مع أحداث الثورات العربية ومشاهدها الحية في الشارع.

لكنّ هؤلاء الفنانين جميعًا، وغيرهم، اتجهوا إلى مسالك بديلة تلائم اللحظة الراهنة. فالثورة مثلًا يمكن تناولها من خلال استدعاء شخصية أحمد عرابي فوق جواده، وهو يردد عبارته الشهيرة "لقد خلقنا الله أحرارًا، ولم يخلقنا تراثًا أو عقارًا، فوالله الذي لا إله إلا هو، لن نورث ولن نستعبد بعد اليوم". وفساد الحكومات يمكن طرحه من خلال تجسيد مجموعة من "الطهاة" يطبخون "الأونطة" (الكذب والتدليس). وجعجعة القادة والسياسيين والمسؤولين بغير طحن يمكن الاستدلال عليها من خلال "أمّ أحمس" وهي توبّخ نجلها المتقاعس. يضاف إلى ذلك، ذكاء فناني الكوميكس بطرحهم قضايا اجتماعية كثيرة، مثل التحرش والهجرة غير الشرعية والتفكك الأسري وغيرها، في إطار حالة احتجاجية عامة على سائر الأوضاع السلبية السائدة.

وهكذا يمضي الكوميكس الجديد، معلنًا قدر استطاعته أنه لم يفقد أظافره وأنيابه وأسنانه كاملة بعد، لكنها في حقيقة الأمر جرى تقليمها، وصارت استعادتها بالصورة التي كانت عليها منذ عشر سنوات رغبة بعيدة المنال.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها