الثلاثاء 2021/06/01

آخر تحديث: 12:26 (بيروت)

عيون أوروبية عوراء

الثلاثاء 2021/06/01
عيون أوروبية عوراء
نصب تذكاري في العاصمة الناميبية ويندهوك يمثل الإبادة الجماعية الألمانية ضد عرقيتي ناما وهيريرو (غيتي)
increase حجم الخط decrease
قبل أيام، خلال زيارة إلى رواندا، اعتذر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن نصيب بلاده من المسؤولية عن مأساة الدولة الواقعة في وسط إفريقيا، طالباً من الروانديين الصفحَ عن فرنسا لدورها في الإبادة الجماعية العام 1994، والتي قتل فيها نحو 800 ألف شخص من عرقية التوتسي والهوتو. وبعد أقل من يوم واحد على اعتذار ماكرون، كان وزير الخارجية الألماني هايكو ماس يكرّر الفعلة في ناميبيا، معترفاً بالإبادة الجماعية التي ارتكبها جيش الإمبراطورية الألمانية ضد عرقيتي هيريرو وناما الناميبيتين، إبّان الحقبة الاستعمارية، في ما وصفه المؤرخون بأول إبادة عرقية في القرن العشرين.

للوهلة الأولى، يبدو أن الاعتذارَين لا علاقة لهما ببعضهما البعض، فالخطيئة الفرنسية حدثت قبل 27 عاماً، والألمانية قبل 117 عاماً. مع ذلك، فموجة "الندم" الأوروبية رأى فيها البعض بشارة عصر جديد يمثل قطيعة مع فقدان الذاكرة الاستعلائي في ما يخص جرائم الاستعمار. غير أن التشكّك في الخطوة ودلالاتها المستقبلية مُبرَّر للغاية، إذا أُخذ في الاعتبار ما حدث مؤخراً في مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، أثناء مناقشة قرار قدّمته باكستان باسم منظمة التعاون الإسلامي بعنوان "ضمان احترام القانون الدولي لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما في ذلك القدس الشرقية وأراضي 48".

وأقرّ المجلس الأممي مشروع القرار الباكستاني بتشكيل لجنة تحقيق دولية مستقلة في شأن العمليات العسكرية الأخيرة بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية في غزة، بالإضافة إلى الانتهاكات للقوانين الدولية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما في ذلك القدس الشرقية. لكن اللافت أن تمريره لم يأت سهلاً ولا بالإجماع. عارَضت القرار تسعُ دول، بينها ألمانيا وبريطانيا، فيما امتنعت 14 دولة عن التصويت ومن ضمنها فرنسا، فيما سارعت الولايات المتحدة إلى مهاجمة القرار باعتباره "تهديداً لوقف إطلاق النار"!

في حديثه أمام النصب التذكاري للإبادة الجماعية في العاصمة الرواندية كيغالي، قال ماكرون إن فرنسا لم تستجب للتحذيرات من وقوع مذبحة وشيكة، ولفترة طويلة "فضّلت الصمت على تقصي الحقيقة"، كما شدّد على أن "فرنسا لم تكن متواطئة في عمليات القتل". في ناميبيا، اعترفت ألمانيا رمزياً بالإبادة الجماعية لهيريرو وناما، بعد أكثر من 100 عام، لكنه ليس اعترافاً قانونياً، بحيث يمكن استبعاد مطالبات التعويض من معاهدة التصالح التي أبرمتها مع الحكومة الناميبية.

استغلت برلين صنائع استعمارها وسياساتها الإحلالية. فعندما حصلت ناميبيا على استقلالها أخيراً في العام 1990، لم تكن قبائل هيريرو وناما في الغالبية الحاكمة ولا في الحكومة (هل كان ذلك بسبب الإبادة الجماعية بحقهما مثلاً؟). ووجدت ألمانيا باباً مفتوحاً، وساعدتها أيضاً الحكومة الجديدة في الديموقراطية الوليدة التي اتجهت لتجاوز ذكرى المجزرة، وبناء سردية وطنية جديدة أكثر شمولية للعرقيات المختلفة (وبعضها من المهاجرين والمستوطنين ذوي الأصول الألمانية). في النتيجة، بدأ زعيم الهيريرو آنذاك، كويما ريرواكو، في التحرك بشكل فردي للمطالبة باستعادة أراضي قبيلته أو الحصول على تعويض عنها، لكنه لم يلقَ ردّاً من الأمم المتحدة ولا من محكمة العدل الدولية.

حتى هذا الاتفاق المعيب "لم يأت بالسّاهل"، كما يقول المصريون، إذ استلزم الأمر زمناً طويلاً وأخذاً وردّاً ألمانياً كي تعترف بجرائمها. بعد مئة عام من "خسارة" ألمانيا لمستعمرتها السابقة في جنوب غربي إفريقيا، اعترفت برلين للمرة الأولى، العام 2015، بأن ما ارتكبته قواتها الاستعمارية من مذابح في سبيل إخماد حركة التمرد ضد الاستعمار كان إبادة جماعية. وهنا، يظهر سؤال مثير للاهتمام بالنسبة إلى مؤرخي القانون الدولي: في ضوء مقتل ما يقرب من نصف عرقية هيريرو - بما في ذلك معسكرات الاعتقال الألمانية المنشأة خصيصاً لذلك الغرض – هل من الصعب التحدث عن أي شيء آخر غير الإبادة الجماعية؟ لعقود من الزمان، امتنعت الحكومة الألمانية عن الاعتراف بالإبادة الجماعية، ليس لأسبابٍ أخلاقية بالأساس بقدر الانهمام بالتعويضات المالية اللازمة والمترتبة على اعترافها. أما التساؤل حول حصول الناجين اليهود من الهولوكوست على تعويضات، بينما حُرم منها الناجون الأفارقة من الإبادة الجماعية؛ فلا إجابة ألمانية على هذا السؤال حتى الآن.

بعد ست سنوات من المفاوضات، أقنع الألمان نظراءهم الناميبيين بالقيام بذلك، بعد إغرائهم بتعويض مالي قدره 1.1 مليار يورو، يُدفع على مدى الأعوام الثلاثين المقبلة، بالإضافة إلى التعاون الإنمائي. حكومة ناميبيا رحّبت بالاتفاق، خصوصاً مع الوضع في الاعتبار الضائقة المالية التي يعانيها البلد الأفريقي الصغير. لكن أصحاب الشأن الأصليين، أحفاد المقتولين والمستعبدين، يشعرون بالخيانة بعد استبعادهم من المفاوضات. حملت مجموعات هيريرو وناما شعار "كل شيء عَنَّا، من دوننا، هو ضدنا"، لكنهم قوبلوا بالتجاهل من الحكومتَين المحلية والألمانية. أكثر من ذلك، لم يُسمع لمطالبهم بتقديم اعتذار غير مشروط وتعويضات عن العواقب الاقتصادية للإبادة الجماعية. لم تمنحهم ألمانيا شيئاً، ولا ردّت إليهم أراضيهم التي سرقها الألمان منهم. حتى اليوم، ما يقرب من 70% من الأراضي الصالحة للزراعة في ناميبيا في أيدي المزارعين البيض، في حين أن غالبية هيريرو وناما ما زالوا يعيشون في المحميات أو في الأحياء الفقيرة في المدن.

وبعد؟
في كانون الثاني/يناير الماضي، رفض إيمانويل ماكرون الاعتذار عن الانتهاكات التي ارتكبتها بلاده في الجزائر، قبل إصدار تقرير المؤرخ الفرنسي بنيامين ستورا، الذي يقيّم كيفية تعامل فرنسا مع ماضيها الاستعماري في بلد المليون ونصف المليون شهيد. بعد ستة عقود من حصول الجزائر على استقلالها، قال مكتب الرئيس الفرنسي إنه "لن تكون هناك توبة ولا اعتذار" على الجرائم التي ارتُكبت خلال حكم الجزائر، أو الحرب الوحشية التي استمرت ثمانية أعوام إلى أن أنهت الاحتلال العام 1962.

ما زال أحفاد المستعمرين القدامي أسرى معادلة جائرة، يحتفظون من خلالها بامتيازات أجدادهم من السفّاحين والمؤمنين بسيادة العرق الأبيض، في حين لا يكفّون عن الحديث المجاني عن فتح صفحة جديدة وإعلاء قيم التشارك الدولي وتعزيز أسس السلام العالمي. ما زالت إسرائيل كلباً مدللاً لأشباهها من فاتحي العالم الجديد ومستعمري الأمس، تعيد أمجادهم المخزية في مراكمة المجازر ونهب أراضي السكّان الأصليين وتزوير التاريخ بسرديات متطرفة. المؤكد أنه إذا كان الماضي لا يموت - وماضي أوروبا الاستعماري أسود ومخزٍ-  فقادة أوروبا اليوم لا يرنون اعترافاً شافياً وصادقاً في ما يخصّ جرائم أسلافهم، بل تسويات رخيصة ومصالحات تحسّن صورتهم في مرآة قيمهم ومبادئهم "البيضاء"، فيما يتعامون عن آخر جرائم الاستعمار الماكثة بيننا في القرن الواحد والعشرين.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها