الأحد 2021/05/09

آخر تحديث: 08:07 (بيروت)

لقاءات مع الكارثة.. أفلام لبنانية قصيرة في مهرجان أوبرهاوزن

الأحد 2021/05/09
increase حجم الخط decrease

خارج لبنان، وخصوصاً في الغرب، يعتقدون أنهم يعرفون الكثير عن ذلك البلد المتوسطي الصغير. "سويسرا الشرق" أو "بلد مزّقته الحرب الأهلية" أو "عصفورية الساسة وملوك الطوائف".. هذا ما دأبت التقارير الإخبارية قوله عن لبنان. في مخيلة مَن زار البلد في زمن بعيد، قبل الحرب الاهلية تحديداً، صورة أقرب للأسطورة من أي شيء آخر، عن جغرافيا ساحرة وبوتقة انصهار بين الشرق والغرب، المسيحية والإسلام. مع ذلك، فحضور لبنان في السينما ضئيل نسبياً. وإن حدث، فعندئذ يحضر فقط كمشهد حرب، كساحة للاقتتال وسقوط الضحايا.

هناك القليل من الأفلام اللبنانية وصلت الى أوروبا. معظمها أعمال وثائقية. كذلك من إسرائيل، مثل فيلم "الرقص مع بشير" (2008، آري فولمان). بالنسبة لجيل معيّن من الإسرائيليين، أولئك الذين ولدوا في أوائل الستينيات، وبالتالي كانوا في السنّ المحدّدة لأداء خدمتهم العسكرية في عام 1982، وشهدوا غزو حكومة بيغن للبنان؛ كان لبنان ساحة تنشئة سياسية-أخلاقية وباباً لمعاينة العقلية المسمومة لدولة احتلال توسعية. أصبح بعضهم صُنّاع أفلام. كذلك صموئيل ماعوز، الذي يُظهر فيلمه الروائي "لبنان" (2009) تجارب مؤلمة، لكنه لا يُظهر شيئاً تقريباً عن لبنان نفسه، وبالكاد يتخذه خلفيةً لتصفية حساب إسرائيلي-إسرائيلي. لكن كل هذه الأفلام تثبت مدى قوة لبنان دائماً، حتى في وقت مبكر مثلما في فيلم "دائرة الخديعة" (1981) لفولكر شلوندورف، حيث يعمل كسطح تسقط عليه أحلام الآخرين.

لا تزال الأفلام اللبنانية قليلة ومتباعدة، ووصولها إلى أوروبا يتناقص. قبل 15 عاماً، قدَّمت اللبنانية دانييل عربيد، المولودة عام 1970، فيلماً جميلاً عن طفولتها في بيروت إبان الحرب الأهلية بعنوان "معارك حُبّ"، طرّزت فيه سنواتها الصغيرة أغنيات بوني إم وبلوندي على وقع القنابل والرصاص. ثم جاءت نادين لبكي وباكورتها "كراميل" (2007) لتقدّم بانوراما مبسَّطة لشباب لبنانيين في بحثهم عن بوصلة موثوقة وسط عالم مضطرب ومتحوّل. وهناك الفيلم الروائي-التسجيلي "بدّي شوف" للثنائي جوانا حاجي توماس وخليل جريج، الذي تتجوّل فيه كاترين دينوف بين المباني السكنية المحطمة في جنوب البلاد في أعقاب حرب الألفين وستة.

تذكّرنا هذه الأفلام وغيرها أنه لا يمكنك مشاهدة صور لبلد ما دون رؤية ما تعرفه بالفعل عن ذلك البلد. لا يمكننا تخيُّل لبنان بريء ووادع. لا لبنان بدون حرب، أو بدون أنقاض، وبقدر جمال هذه التصوّر الحالم، إلا أن كل هذه الأفلام لا تستطيع فعل ذلك أيضاً. وإن أظهرت لنا هذه الأفلام أن لبنان ما بعد الحرب، بلد مسالم وسعيد، حيث يفرح الناس ويحبّون ويخلقون عوالمهم الخاص؛ ففي غمرة هذه "العادية" تكمن الإيديولوجيات رابضة حتى لحظة استدعائها. معضلة لبنانية لا مفر منها.

كل هذه الأمثلة تؤكد الصورة المبدئية عن لبنان كما ترد في نشرات الأخبار. لكن الآن، تحت عنوان "نبوءات من البحر"، يعرض مهرجان أوبرهاوزن الدولي للأفلام القصيرة أفلاماً من لبنان "حول الطبيعة النبوئية لأعمال سينمائية أُنجزت في لحظات انتقال وتحوُّل" ضمن برنامج خاص، من إعداد نور عويضة ورامي صبّاغ. يأتي البرنامج كجزء من مبادرة أطلقها المهرجان ومعهد غوته بعنوان "Goethe Presents…" لتفعيل وتكثيف التّعاون بين المؤسّستين الثقافيّتين الذي بدأ منذ عشر سنوات. وبهدف تعزيز التبادل الثقافي الدولي بين صانعي وصانعات الأفلام، يتولّى كل سنة أحد معاهد غوته في العالم تقديم نظرة ومقاربة على المشهد الفني المحلّي، خلال مهرجان أوبرهاوزن. البرنامج لا يعرض أفلام تتناول الانفجار بشكل مباشر بل افلام تتعامل مع كوارث وأحداث سابقة. أما قلّة الأفلام المعروضة التي تم انتاجها بعد الانفجار فهي لا تتعامل معه بشكل مباشر...

يقترح البرنامج أن الأفلام التي تشغل مثل هذه المساحات الحدودية (ما بعد الكارثة)، تكتسب بُعداً نبوئياً، بالنظر إلى أنه في حالات الكارثة هذه، ينهار الزمن على نفسه: 2006 تصبح صدى 1982، كما 2020، وسنة أخرى قد تأتي. في مشهدٍ تستمر فيه الكوارث وأسبابها، تغدو التجربة الفيلمية حاملاً لهواجس الصدمة وأفكار للمستقبل. تحمل الأفلام عبء الكارثة، سواء ظهرت في العمل أم لا، لأنها موبوءة بها بالفعل، وما الشكل الذي تظهر عليه تلك الأفلام سوى رجع أصداء ارتدادات الكارثة اللانهائية عبر الزمان والمكان. بهذا المعنى، لا تكشف الأفلام عن نبوءات فحسب، بل تشهد على صيرورتها.

نهر يومض باللون الأرجواني. ليس دماً ذلك الذي نراه هناك، ولا حتى لوناً، بل هو أحد تأثيرات الكيمياء الطبيعية. لكن يبدو أن الأرض نفسها تنزف، وهذا ملائم تماماً، لأنه في هذا الفيلم، تكمن الكارثة تحت الأرض لا فوقها. "القلق"، لعلي شرّي، يبتعد عن الهزّات السياسية والاجتماعية ليذكّرنا بأن لبنان يقف على خطوط صدع رئيسية في القشرة الأرضية دفعة واحدة. يُظهر فيلمه إبراً مرتجفة لجهاز قياس الزلازل ويجد في الشقوق الصغيرة والكبيرة على الأرض والوضع الجيولوجي للبلاد، بوادر كوارث قادمة.

في مقلب آخر، ثمة قصة هوسية تبزغ من هاوية الحالة الإنسانية في فيلم "قصة العميل رقم 17"، حول ضابط مخابرات في الجيش اللبناني كان مكلّفاً في العام 1997 بمراقبة كورنيش بيروت، لكنه بدلاً من القيام بمهام وظيفته المعتادة، قرَّر ببساطة تصوير غروب الشمس. الفيلم بتوقيع "أطلس غروب" التي تجمع صوراً للحياة العادية من لقطات الفيديو الخاصة بالعميل. في فيلم "مجرد رائحة"، نشاهد مجموعة من الرجال ينتشلون الجثث من منزل محطم، نرى فقط هيئتهم، وكيف يرتدون قفازات مطاطية، أو كيف يمسكون أنوفهم بأيديهم، ويتركنا الفيلم لنتخيّل كل ما لا يظهره لنا.

أفلام قصيرة، أقصرها لا يدوم سوى ثلاث أو أربع دقائق، والأطول حوالي 20 دقيقة. لقطات وتجهيزات مصورة يجب بالضرورة أن تركّز على انطباع واحد، ومشهد واحد، وبعض الأفكار المختصرة، وبالتالي تصبح أكثر ذاتية، برنامج الأفلام في أوبرهاوزن أُنجز بالتعاون مع معهد غوته، ومن المقرر عرضه أيضاً في لبنان في موعد لاحق من الصيف. غير أن هذا لا ينتقص من جودة الأفلام وخصائصها المتمثلة في كونها شهادات أصلية وتمثيلات أصيلة.

 

قطعة صوتية قامت فيها الفنانة أوروك شيرهان بإعادة منتجة صوت "مائة وجه ليوم واحد" لكريستيان غازي من العام 1970.

يجدر بالذكر أن ثمة قسماً فرعياً ضمن البرنامج يضمّ أربعة أعمال بارزة لـ"مركز بيروت للفنون" (BAC)، كانت المهمة هي صنع فيلم روائي قصير يتكون حصرياً من لقطات من الكاميرات الأمنية الست المثبتة في مبنى المركز. وبالطبع، تظهر لحظة انفجار مرفأ بيروت. إنها أفلام رعب معاصرة. ما تظهره هذه الأفلام عن لبنان ليس إلا بانوراما ديستوبية للغاية. "ما كل هذا إلا ألعوبة إله مجنون؟"، يسأل نصّ تعليقي في فيلم "ظهور" لملاك مروة. وفي "باراسومنيا" للمخرجة لارا تابت، تمتزج الأصوات المذعورة والمختلطة مع لقطات بالأبيض والأسود من كاميرا مراقبة، وصور لأشخاص يهربون في حلقة متكررة، وعيني قطة في الأشعة تحت الحمراء مع كولاجات صوتية يمكن بسهولة تخيّلها في فيلم رعب. العزاء، إن صحّ هذا التوصيف، يأتي في الختام مع نهاية على الطراز الأوروبي القديم، على أنغام سوناتا بيانو لبيتهوفن.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها