الأحد 2021/05/09

آخر تحديث: 08:08 (بيروت)

الليل الفلامنكي

الأحد 2021/05/09
الليل الفلامنكي
وجد الهوة واسعة بين ذاكرتين، وهو ما يحصل عادة للمغتربين قسرا، والمبعدين، والمنفيين
increase حجم الخط decrease
مقطع من رواية تصدر قريباً للروائي العراقي شاكر الأنباري...
انشغل "نصير" بعد رجوعه من منفاه الأوروبي على مفهومين، الأول ردم الهوة في روحه وسماها الثقب الأسود لمجرة الذاكرة، أي ملء زمن الانقطاع الذي عاشه منذ ساعة مغادرته للوطن. وجد الهوة واسعة بين ذاكرتين، وهو ما يحصل عادة للمغتربين قسرا، والمبعدين، والمنفيين. والمفهوم الثاني هو تكريس معارفه النظرية، وعلمه في البحث والفلسفة المقارنة، لتغيير الواقع عبر الفعل، والتخطيط، والحركة. ردم الهوة الزمنية بنشاط لم ينقطع. عرفت دون شك أنه سكن مع أمه وأخوته القاطنين خلف الجامعة المستنصرية، قريباً بعض الشيء من المكان الذي اغتالوه فيه على طريق محمد القاسم. 

بسبب انتمائه للحزب الشيوعي، وجدارته الفكرية، وثقافته، وظّف مستشارا لوزير الثقافة، وكان مكتبه دائما ما كان يغص بالمثقفين، والفنانين، والصحافيين. زرته هناك أكثر من مرة. رفض امتيازات المنصب من مرافقين وسيارة خاصة وغير ذلك، واكتفى بأخيه الأصغر سائقا ومرافقا له. ولردم تلك الهوة المكانية كثيرا ما غادر المكتب وتوغل في بغداد، مستعيداً منظر شوارعها ومناطقها الشعبية وتسمياتها الحديثة، متأملا في واجهات عماراتها العتيقة، قارئا آثار الزمن على جسدها. 

يقف في سوق السمك يحصي أنواعه المجلوبة من الأنهار والأهوار والبحيرات، ثم يجلس في مقهى شعبي يتناول الشاي، ويرمق وجوه الجالسين، وتعابيرهم. يستمع إلى اللهجة الصافية، ونبرات اللغة، والانفعالات المرافقة للحوارات. هناك يتلمس آثار الحروب، والرعب، والزنازين، والإذلال، والنذالة، والفاقة، والآمال المجهضة طوال عقود من الهزائم. يتقرّى كل ذلك في أخاديد الوجوه المتعبة، والنظرات الكسيرة، والشعور البيض الشائبة من الأهوال، ولغة الأجساد الدالة على القلق، والشتات، والخوف من المجهول. يضيع في الشوارع الشهيرة كشارع الرشيد، والجمهورية، والنهر، والسعدون، والكفاح. يقارن بين تلك الشوارع ذاتها في ذاكرته وهذه الشوارع البائدة التي يراها. تغير كل شيء يقول لنفسه بحسرة، شابت الأمكنة كما شبنا. يركب في باص يربط بين ساحة النصر وعلاوي الحلة دون أي هدف، ومن هناك يراقب امتداد نهر دجلة بين الكرخ والرصافة، ويدير بعض الأوقات حوارا مع الركاب في دافع خفي لمعرفة ما يضطرم بأذهانهم حول البلد وأحداثه السياسية والاقتصادية. يترجل عند المحطة العالمية المقابلة لجامع "ابن بنية" ويرجع ماشيا بعض الأيام مرورا بالشواكة، وسوق السمك القريب من فم جسر الشهداء في جانب الكرخ، ثم يقف على قمة الجسر ممسكاً بالسياج، متطلعاً نحو مدينة الطب والبيوت العتيقة التي عاصرت الملكية. يحلق مع نوارس النهر في سماوات الحلم، والأمل، ويطمح في لحظات فريدة أن يتحول إلى نورس هو الآخر. 

أما في الجمعة فقد رافقته مرتين أو أكثر، إلى شارع المتنبي. كان مهووساً بالكتب، الكتب القديمة المباعة على الأرصفة، يعتبرها سلة المهملات للثقافة، عن طريقها يطل على أسرار البيوت البغدادية، وأفكار مثقفيها وغذائهم الروحي طوال سنوات الجدب الماضية. يحدث أن يلاقي كتبا مهدات إلى مشاهير الكتاب، وطبعات قديمة تعود إلى الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، ونسخا نادرة لم تعد طباعتها مرة أخرى. يشتري كل ما يلفت انتباهه. يتملكه نهم معرفي لا يرتوي، فذلك الثقب الأسود، ثقب الذاكرة، لم يكن ذا قرار. وفي نهاية اليوم كنا نجلس في مقهى الشابندر، بعد أن نكون تناولنا صحنين من كبة السراي. هناك في المقهى العتيق يطلب أركيلة وكأساً من الشاي، ثم يبحر في وجوه الزبائن، والصور القديمة لأهم مشاهد بغداد المعلقة على جدران المقهى. ولا يلبث أن يرتكس ثانية داخل روحه كأي بغدادي عتيق.

ولأن للماضي سحراً على الأرواح، دخل مرة إلى مقهى أم كلثوم المطل على شارع الرشيد من جهة الميدان، وغاب في عتمة المقهى، وانزوى قريباً من بيت النار. وكان ذلك في ظهيرة شتائية باردة. كانت أم كلثوم تغني أغنيتها الشهيرة "القلب يعشق كل جميل"، فأوصى على أركيلة واستكان دارسين، ليتقمص سنوات السبعينيات حين كان من رواد ذلك المقهى. وليتذكر قصص حبه مع فتيات الجامعة في رحلة خيالية نحو الماضي. وحوله تطل من الجدران صور أم كلثوم التي يعود تاريخ بعضها إلى أول زيارة لها إلى بغداد، إضافة إلى صور لها وهي شابة، وأخرى في خريف عمرها. ولا يعود من سفره مع الصوت الخلاب إلا على نبرات مؤذن الجامع الساحرة وهو يدعو إلى صلاة العصر، ويكون قد استهلك خمس استكانات شاي وحامض ودارسين، ورأسين من التبغ، وسفح قناطير من الدمع على عمر مضى وكأنه انتقال سريع ما بين الميدان وساحة الرصافي.

ذات يوم أبدى لي رغبته في مرافقته للسهر في واحدة من بارات بغداد، يقع مقابل القصر الجمهوري، ليس بعيدا عن تمثالي شهرزاد وشهريار القائمين على كتف دجلة في ظلال التوت، والزعرور، وسعف النخيل. كان البار متواريا وراء ممشى محاط بالأشجار، يدخل إليه المرء من شارع أبي نؤاس. 

دخلنا الباب العريض ووجدنا صالة واسعة تنتثر في مساحتها طاولات خشبية عتيقة، يجلس عليها أشخاص متعبون، منكفئون على كؤوس العرق والبيرة. وفي الصالة تنتشر رائحة ثقيلة للكحول، والمازات من لبلبي وخس وحمص وباقلاء وسلطات. اتخذنا مجلسنا قرب الجدار المواجه للباب، على يسارنا مدخل الحمامات، وعلى يميننا البار المختبئ في العتمة. طلبنا بيرتين من نوع "هاينكن" كانتا فاترتين، فالكهرباء مقطوعة كالعادة، ولا يضيء المكان سوى شموع موزعة على الطاولات، مما حوّل الصالة إلى نفق شبحي، خاصة مع ظلال الماشين أو أجساد الزبائن المتمايلة على طاولاتها. اشتبكنا بمحاورات طويلة عن الفجوة التي تفصل المغترب عن المكان الذي غادره، وشرح لي رؤيته في هذا الجانب. قال إنه قرر أن يقطع السنوات التي قضاها في الخارج، وقد تجاوزت الثلاثين سنة، من سجل عمره، وسيعيش حتى النهاية في البلد مهما حدث، أو مهما سيحدث. ينبغي علينا أن نكفّر عن سنوات البعاد، غادرنا البلد في سنوات الأزمة وكان في أشد الحاجة للمتنورين من أمثالنا. كنت أسمع له فقط، لأننا، تقريبا، شبه متفقين على هذه المقاربة. وخارج البار كانت بغداد تعيش جحيمها، إذ تتناهى إلى أسماعنا أصوات الانفجارات، والطلقات، ومزامير سيارات الإسعاف، تأتي من ليل مخنوق في المدينة. ورغم ما في الجلسة من خطورة، ومغامرة، لم يغب عن ذهني أنه يعمل مستشاراً لوزير، وهو عنوان كاف للموت، إلا أننا واصلنا الحديث عن مستقبل بغداد، والبلد بصورة عامة. كان الهمس يتصاعد من الجالسين، بعض يغني بعد أن وصل إلى حالة السكر، وكانت الزفرات تتطاير من حولنا.


ونحن في ذلك الجو الكئيب، المتوتر، وإذا بشخص ضخم يقتحم المكان، بدا عليه السكر الشديد. وقف في المنتصف من الصالة، وراح يجيل فينا عينين ناريتين. كانت ملامحه قاسية، لحيته نامية وملابسه غير أنيقة، وهو ما جذب إليه أنظار الجالسين، فحل الصمت كاملا علينا وسط دهشة عامل البار، ودهشتنا نحن مجتمعين. 

أول جملة وجهها لنا هي أننا جبناء، وسفلة، جئنا على ظهر دبابة، والبسطار الأميركي يقبع على رؤوسنا، ثم مضى في حديث طويل منفعل، رافقه هز القبضة واستفزاز الجالسين بالإشارات، حتى قال بصوت حاد غاضب: من منكم يعتبر نفسه رجلا فيرد على كلامي؟ مما جعل الجميع يصمت. خشينا من إتيان أي حركة مهما كانت بسيطة. واستمر الجو متوترا قاتلا لدقائق، إلى أن جاء صاحب البار وعماله، وبدأوا يتوسلون له بالخروج، أو الجلوس لتناول مشروب على حساب المحل. لكن الرجل الغريب رفض كل العروض. وسط صمت مطبق، ظل ينظر إلينا بتحد شيطاني لمدة خمس دقائق. ولسبب ما أدار بعدها وجهه وخرج من الباب بغتة كما دخل. غيّبه ليل بغداد المريب. وبقينا أنا ونصير نتبادل النظرات فترة طويلة حتى انتهت جلستنا. وبعد أسبوع كتب موضوعا عن العنف في الروح العراقية، نشره في صحيفة محلية. كان المقال عميقا يكشف جذور القسوة، والعنف، والتناقض في روح الفرد. ربط فيه الظاهرة تلك بالظروف الشاذة والمتطرفة التي عاشها البلد طوال عشرات السنين.
 
أما كيف كرّس معارفه لتغيير الواقع فسعى إليه بطرق غريبة، منها نجاحه في عقد ذلك المؤتمر الضخم للمثقفين، والفنانين، والمفكرين، سواء ممن عاشوا في الخارج أو ممن لبثوا في الداخل طوال عهود الديكتاتورية. ظل لمدة شهر مثل نحلة لا تتعب، كل ذلك من أجل تحقيق رؤيته في استعادة روح الثقافة الوطنية الحقيقية المرتبطة بهموم الشعب. 

انعقدت جلسات المؤتمر في المسرح الوطني وسط بغداد. ندوات عن المسرح، أماس شعرية، حوارات حول الثقافة والسينما والفن التشكيلي، وهكذا لثلاثة أيام كان فيها نصير يتجول بين المدعوين فرحا سعيدا، لأن معظم المشاركين من أصدقائه أو أساتذته، سواء من الداخل أو الخارج. 

في ذلك المؤتمر طرح فكرة إقامة معرض تشكيلي للفنانين المغتربين، وبناء متحف للفن يجمع لوحاتهم التي أنجزوها خلال فترة غيابهم. أنت قد تسلمت صديقي "مرتضى" دعوة حسب ما أعرف، إلا أنك لم تحضر وقتها. وأصدر صحيفة يومية تغطي تلك النشاطات، وطرح فكرة إصدار كتاب عن وقائع المؤتمر وتوصياته من أجل اعتماده كدليل لإعادة بناء الثقافة بأفق وطني. كل تلك النشاطات، والمقالات التي دأب على نشرها حول ظواهر المجتمع، وآرائه الجريئة بين أصدقائه ومجالسيه، أثارت التوجس منه وأحاطته بأعداء مجهولين.
 كانت النخبة الحاكمة في واد آخر. 

لم تعجب شخصيته المتفائلة النشيطة شريحة واسعة من الحركات المسلحة، والأحزاب الدينية، والعصابات، والمتطرفين الذين نموا مثل الفطر في بيئة العنف تلك. ثم واصل نشاطه ذاك، بالحماس نفسه، حتى يوم مقتله على طريق محمد القاسم.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها