السبت 2021/05/08

آخر تحديث: 12:56 (بيروت)

ما الكتابة حول الجنس إذاً؟

السبت 2021/05/08
ما الكتابة حول الجنس إذاً؟
الكتابة العارضية ليست الوحيدة التي قد تقارب محال الجنس
increase حجم الخط decrease
أستند إلى صدور "البائن من الجنس في لبنان"(*)، لأعود إلى استفهام كنت قد طرحته في ديباجته لأنه ألحّ عليّ طوال وضعي له: كيف تدور الكتابة حول الجنس؟ أبغي هنا صياغة هذا الاستفهام مرة أخرى: كيف من الممكن للكتابة ان تدور حول الجنس في زمن البورنو، وهذا، من دون أن تكون بورنوغرافية؟


أشدد بداية على ركوني إلى الحديث عن "الكتابة حول"، وليس "الكتابة عن"، أو "الكتابة في"، وهذا من باب أنها كتابة تأخذ على عاتقها الاقتراب من "حول" موضوعها، أي، وببساطة، الاقتراب من قدرته على محاله، الذي، وحين يصطدم به، أو كل مرة يفعل فيها ذلك، يجيب عليه، فيتبدل (يصير أو يستحيل-devenir- على وجه الدقة). الكتابة حول موضوع ما، هي الكتابة التي تقترب من قدرته تلك.

بسَحب هذه الفكرة على الكتابة حول الجنس في زمن البورنو، يغدو لا مناص من الإشارة إلى اشكالية رئيسية، سأعمد إلى تقديمها باختصار وتلخيص.

محال الجنس هو، ومن علم الإناسة إلى التحليل النفسي، اللاكاني وسواه، يتعلق بوصاله: الوصال الجنسي هو وصال مُحال. على أن البورنو هو الذي يتقدم على أساس أن هذا الوصال في حد ذاته ليس كذلك، لا سيما بعد توقيفه على الجِماع. بالتالي، البورنو هو، ولأنه من تشكيلات الرسملة، ينطوي على رسالة أن الوصال الجنسي ممكن، وفي النتيجة، لا محال للجنس، أو لا محال فيه. فالبورنو ينفي محال الجنس، ومن هنا بالتحديد، هو يؤدي إلى تعليق قدرته، إلى إماتتها اذا صح التعبير، لأنها لا تجد أي محال فيه لتكون على علاقة به، وبهذا، سرعان ما يحملها ذلك أولياً الى الانكماش.

على هذا المنوال، مشكلة البورنو ليست أنه يمثل الجنس-كما يردد نقده من جهة انه مجرد مَشهَدة للجنس- بل إنه يحلم بإنتاج هذا الجنس بلا محال، بلا قدرة، بلا علاقتهما، بلا اصطدام وإجابة. يجعله، وكوصال مختزل بالجِماع، هكذا: ممكن الوصال، واحد، معدود، في حين أن كل رغبته ترتبط بمحال وصاله، بتأكيد فصاله، بآخريته، بما أسمّيه "مبدوده". فالجنس قلبه المحال، هو خوض لآخرية، ولا يمكن قياسه بالمعدود، بل إن معدوده هذا مبدود.

بعد ذلك، يصير استفهام الكتابة حول الجنس مرتبطاً باقترابها من منفي الجنس في إثر البورنو، اي المحال اياه، وربما، اول إيضاح لذلك الاستفهام يستلزم تغييره الى: أين يقع محال الجنس بعد نفيه؟ أين يمكن ايجاده؟ في ناحية البورنو، ناحية "مراءاته ومواراته"، تصح محاولة الوقوع على "بيانه" في فيديواته الهوايتية (من هواية) مثلاً. لكن، لكي تقترب الكتابة من ذلك المحال، لا بد لها ألا تكون بورنوغرافية، بمعنى لا بد لها من شيء بعينه حيال الجنس، خصوصاً أنها لا تريد إنقاذه، لا تستطيع ذلك، بل اللقاء به: أن تؤكد على كونه-وهذا مقلب من مقالب كونه من دون وصاله- لا يمكن أن يُكتب، بمعنى أن الكتابة لا يمكن لها تمتد عليه، بل أنها دوماً ترتطم بمحاله، فتجيب، وتتحول أيضاً. على هذا المنوال، الكتابة، وعندما تقترب من الجنس، هي تأخذ على عاتقها أن تثبت محاله بعد نفيه، أن تشير إلى حضوره فيها بالتوازي مع إشارتها إلى حضوره فيه: لقاء بين محالين. فعندما تقترب منه على شكل ما يعترض البورنو في الفيديوات الهوايتية- المحال كاعتراض بياني، يعني كبائن، على المرآى الذي ينفيه- من الممكن لها ان تسعى إلى أن تكون إجابة عليه بوصفه لا يمكن كتابته بعد ارتطامها به. فتحل عندها كإجابة تؤكد وضعه هذا، وفي الوقت نفسه، ترد عليه، وبهذا، تكون عارضية.

بشكل مختلف، وربما، صعب: الكتابة هي كتابة ما يعترض استعراض الجنس كما أنها كتابة العارض بما هو جواب على محال وصاله، جواب يثبته ويقاومه، وبهذا، يصير تأكيداً عليه.
كل ما سبق، أبغي أن انهيه، ومن باب الفكاهة، التي لا تلغي الجدية بتاتاً، بما يشبه النداء. إذ أن الكتابة العارضية ليست الوحيدة التي قد تقارب محال الجنس عبر ما يعترض استعراضيته، على العكس، لا مناص من تنوع التجارب الكتابية وغير الكتابية في هذا المطاف. النداء إذاً: إلى شغيلة السرد، البحث في رواية الجنس من باب إعادة تشغيل المنفي فيه من قبل القص البورنوغرافي، إلى شغيلة الشِّعر، البحث في قصيدة للجنس لتكون اللغة فيها لغة من محاله (من أجل اختراع كلمات تقوله)، إلى شغيلة الميديا أن يحطموا آلة التبَورُن، وهذا، عبر إتمامه، عبر الإقرار بالبورنو الذي تنطوي عليه كل "الأعلَمة"، عبر قلبها اليه بشكل كامل. إلى شغيلة السكسولوجيا التنويريين، الإقلاع عن وعدهم الذي يتعلق بجنس يضاهي الدخول إلى الجنة، وبهذا المعنى، "تلحيد" منظوراتهم. وإلى كل الشغيلة في الفن والفلسفة، أو في أي مجال كان، البحث في أشكال إيروتيكية أخرى لتكون، وفي محصلتها، من ايروتيكيات المحال.

(*) البائن من الجنس في لبنان، للكاتب روجيه عوطة، صادر عن دار الجديد، ونُشر بدعم من الصندوق العربي للثقافة والفنون-آفاق. للتحميل، هنا.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها