السبت 2021/05/08

آخر تحديث: 12:44 (بيروت)

المسيرة الصينية الكبرى وصواريخها التائهة

السبت 2021/05/08
المسيرة الصينية الكبرى وصواريخها التائهة
العرض الصيني أُُفسِد، "التناغم السماوي" مادة للسخرية أو فيلم رعب على شاشة أميركية (غيتي)
increase حجم الخط decrease
للصين الحديثة أسطورتها، وككل قصة خلق، تتضمن رحلة من الأهوال، المسيرة الكبرى هي أسطورة الصين. إلى اليوم، تكرر شعارات الحزب الشيوعي أنها معجزة، وإن كانت الإيديولوجيا الرسمية لا تؤمن بالمعجزات. ثمانون ألف مقاتل من الجيش الأحمر ومن النساء والأطفال، يفرون من الموت المحقق على أيدي قوات تشانغ كاي شيغ. في أكتوبر 1934 غادرت الطوابير الطويلة المنهكة من الشيوعيين، المقاطعات الجنوبية، وعلى مدى عامين اجتازت 12500 كيلومتر في اتجاه الشرق، ومن ثم انحرفت إلى شمال البلاد الشاسعة.

وصلت أخبار الملحمة إلى العالم، بعيون أميركية. دوّن الصحافي ادغار سنو تفاصيل رحلة الأهوال اليائسة والبطولية في كتابه الشهير "نجم أحمر فوق الصين". مكّنت المسيرة الكبرى، ماو، من البروز والسيطرة على قيادة الحزب، وعلى الصين كلها لاحقاً. لكن ماو أيضاً، أو على الأقل صورته المحببة في الخارج، كانت صنيعة سنو، تلك الصورة التي عكست علاقة الحب/الكراهية بين الأميركيين وزعيم الصين الشيوعي. أقل من 10% ممن انطلقوا في بداية المسيرة، وصلوا إلى نهايتها، والباقون سقطوا يوماً بعد يوم بفعل الجوع والبرد على قمم الجبال الثلجية، أو غرقاً في المستنقعات وقيعان الأنهار الهائجة والعميقة، أو بسبب الأمراض وهجمات قوات الكومينتانغ.

لا حاجة للأسطرة، الوقائع ذاتها مفعمة بالأساطير الحقيقية. أما الأخطاء المأسوية التي سيقع فيها ماو، وخصومه أيضاً، فكافية لكتابة تراجيديتها الخاصة. الخلاصة التي يتلقاها التلاميذ في المدارس اليوم، إن هذه هي الصين، التضحية والتقدم ببطء عبر الطريق الطويل والكرب حتى الانتصار النهائي.

لا عجب أن تطلق الصين على صواريخها الحاملة للقطع الـ11 من محطتها الفضائية، اسم المسيرة الكبرى: "لونغ مارتش 5 بي". في العام 1949، ومع إعلان قيام الجمهورية الشعبية، ألقت السلطات الأميركية القبض على عالِم المحركات النفاثة، الصيني المقيم في الولايات المتحدة، تشيان توتشويسن، ووضعته في الإقامة الجبرية لأعوام. كانت تلك المواجهة بين البلدين قاطعة، وبلا مشاعر مختلطة، على غير سابقتها. عملت الولايات المتحدة باكراً جداً على حرمان الصين الشيوعية من التكنولوجيات المتقدمة، وحصارها تقنياً. وحتى في أوج الحرب الباردة، ومع تعاونها الوثيق مع السوفيات في المحطة الفضائية الدولية، فإن واشنطن أصرّت على رفض مشاركة الصين، ولو بشكل رمزي. خرج توتشويسن من معتقله الأميركي في العام 1955، وعاد إلى بلاده، ليصبح بطلاً أسطورياً آخر، وأباً روحياً للبرنامج الفضائي الصيني، المخطَّط الذي سينطلق في مسيرته الكبرى نحو السماء هذه المرة.

وصلت الصين إلى الفضاء متأخرة، لكن لا يهم. في العام 2003، أرسلت أول روادها إلى هناك، وأصبحت الدولة الثالثة، بعد الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة، التي تقوم بهذا. وفي العام 2019، أصبحت أول دولة تهبط مركباتها الفضائية على الجانب المظلم من القمر. والعام الماضي، وصل مسبارها الاستكشافي إلى المريخ، قبل أن تبدأ بناء محطتها الفضائية المأهولة "تناغم السماء" هذا العام، والمفترض أن تضحي المحطة الوحيدة العاملة بعد تفكيك المحطة الدولية بحلول العام 2024.

يتغير العالم بسرعة فائقة. الولايات المتحدة على وشك أن تخسر مكانتها كأكبر اقتصاد في العالم، لصالح الصين. الأمر في حكم المؤكد، والسؤال هو: متى. أما بكين فلا يقلقها المدى الزمني. التراجع الديموغرافي فيها قد بدأ فعلاً، عدد السكان يتجه إلى الهبوط للمرة الأولى، وتسجّل ارتفاعاً في متوسط الأعمار. لكن شيئا واحداً لم يتغير على الإطلاق، أو ربما تغيّر قليلاً، فما زلنا نرى الصين عبر العيون الأميركية. لا تملك بكين تلك السطوة الإيديولوجية التي كانت تتمتع بها موسكو حول العالم، ولا الأدوات الدعائية الضخمة الممزوجة بالخيال الهوليوودي التي طورتها الولايات المتحدة على مدى عقود.

ببساطة، وبلا أدنى جهد، يسرق الأميركيون العرض. صاروخ "المسيرة الكبرى" المفترض به تتويج المجد الصيني، يتحول إلى أضحوكة، في لحظة. تنميطات عدم الكفاءة وصناعة الدرجة الثالثة يتم تفعيلها. صورة الصينيين كخطر أو تهديد دائم، تعيد انتاج نفسها، وتتوالد من خطر ديموغرافي، إلى بيولوجي، ففضائي. عشرات الآلاف من قطع القمامة الفضائية وحطام المركبات والصواريخ تهيم في الفضاء بالفعل. 150 ألف طناً من تلك البقايا تسقط على الأرض كل عام، وبلا أي ضحايا. لا شيء استثنائياً إلى هذا الحد في قصة الصاروخ، والحوادث الثلاث المرتبطة بهذا النوع، إثنان منها للولايات المتحدة والثالثة لروسيا.

والحال أن الصينيين يتكلمون لغة لا يفهما العالم، أو ربما هم غير معنيين بالكلام أصلاً، الطمأنة الرسمية تأتي متأخرة، ولا يصدقها أحد. صفات مثل "التائة" و"خارج السيطرة"، يتم تناقلها كحقائق حول الصاروخ، ويتابع المواطنون حول العالم حركته ومساراته المفترضة على شاشات المراصد الأميركية. كثير من الإثارة والبيانات المغلوطة، رهانات على موقع السقوط، وتكهنات ونكات محلية بلغات عديدة، ونظريات مؤامرة ومخاوف وهلع تغذيها سيناريوهات مبالغ فيها.

في نهاية الأسبوع سيتضح مصير "المسيرة العظيمة"، لكن الأكيد هو أن العرض الصيني قد أُفسد، "التناغم السماوي" مادة للسخرية أو فيلم رعب على شاشة أميركية.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها