الجمعة 2021/05/07

آخر تحديث: 18:41 (بيروت)

بلاد "علي إكسبرس"

الجمعة 2021/05/07
بلاد "علي  إكسبرس"
لحظة إطلاق الصاروخ الصيني التائه (غيتي)
increase حجم الخط decrease
أن يكتسب بلد ما، "شخصية"، فهذه عمليةٌ مركّبة ومفذلكة، متعددة الأطراف: الدولة، الشعب، أصدقاؤهما والأعداء. طبخة ثقافية بالدرجة الأولى، تاريخية، ولا تتسنى للجميع، إذ ثمة بلاد ترزح في أدوار الكومبارس، كما أن "النص التخييلي" لمَن ينالون "الكاراكتر" لا يُتاح للجميع بكميات متساوية من الدسم.

الصين الآن، وأكثر من أي وقت مضى، تنافس أعتى دول العالم على "شخصيتها الاعتبارية". تسرح وتمرح في الخيال الكوني وتحتل مساحات جديدة كل يوم، تماماً كما فعلت في التجارة والصناعة والتكنولوجيا...

من الصاروخ التائه، الذي علّقت السلطات الصينية أخيراً على الأخبار المتداولة بشأنه، نافيةً خروجه عن السيطرة أو تهديده للأرض، إلى التلوث الذي تتسبب به للأرض بما يعادل مجموع ما تنتجه الدول المتقدمة، وطبعاً جائحة كورونا واللقاح... وفي ثنايا هذا كله كثيرٌ متراكم، بدّل وجه البلد التي كانت مضرب المثل العربي في صِفَتين: البُعد (أطلبوا العِلمَ ولو في الصين)، والغرابة التي لا شأن لمعظم سكان المعمورة بمعرفة أي شيء عنها سوى إكزوتيكيتها. فيُقال (بالعربية والانكليزية) لمَن نحدّثه ولا يفهمنا: "ركّز معي، فأنا لا أكلّمك بالصينية". ونقول عمّا لا يُتوقّع منا فهمه لأنه "طبيعياً" معرفة محدودة في فئة معينة من الناس: "بدا لي مكتوباً بالصينية"، مثلما نقول "كأنها علوم الذرّة". فاللغة الصينية والعلوم الاختصاصية المعقّدة، سيّان في المخيلة الكبرى، حكر على "ناس" هذه وتلك.

لطالما حضرت احتكاكات السياسة والإيديولوجيا (اليسار والحزب الشيوعي)، الفيتو في مجلس الأمن، بعض الأدب المترجم والحرير، سلاسل مطاعم الحامض-الحلو، كليشيهات السينما و"تشاينا تاون"، بروس لي ومدرّب الكاراتيه الحكيم و"فيتيش" الجنس والعنف، وإحدى أكبر الكتل البشرية على وجه الأرض.. لكن بورتريه الصين لم يسبق أن استقر في الذهن الجمعي، على ملامح واضحة تستجلب تفاعلاً أعمق، وفرديّ أيضاً. فهي ليست بلداً للهجرة أو اللجوء أو استكمال التعليم الجامعي، ولا وجهة سياحية مقصودة. لكنها الآن المارد الذي لن يرتاح قبل أن يحقق نهاية العالَم، بحسب النكتة السائدة بجدّية غير مسبوقة.

لكن الصين، منذ عقود، يتناقص بُعدُها وتُروَّض غرابتها. هي المرغوبة تارة، والمذمومة تارة أخرى، والأكيد أنها موضوع نميمة دولية لا تنقطع. التجار العرب واللبنانيون شقوا إليها دروبهم، وصارت رحلة أحد الزملاء أو الأصدقاء إلى الصين لجلب البضائع، خبراً أليفاً، كألفة متاجر الـ"وان دولار" في كل حي ومدينة، حتى لمُستِرزق ليست التجارة مهنته الأساس. وجاء موقع "علي اكسبرس" ليجعل التسوق متعة معمّمة ومقدوراً عليها، مقترنة بخيبة الشاري بالبضاعة الركيكة المقلّدة، ورغم ذلك لا يتوب. ومقولة "لمّا تُطلُب (إملأ الفراغ بما شئت) مِن علي اكسبرس" لا تحتاج شهادة "آيزو" للانتشار.

الصين اليوم بقعة تناقضات يقوم عليها خطاب بأكمله: التطور الفائق المقترن بتدني الكلفة وأخطاء مميتة، مقعد قيادة في مركَبَة العولمة يحتله البلد المُقفل على شعبه بشبكة اتصالات وطنية وقبضة نظام شمولي قمعي.

حتى الدهشة فقدت دهشتها حينما تصدّر طبق الوطواط الصيني نشرات الأخبار، باعتباره مصدر "كوفيد 19". فحلّ الرعب والغضب محلّ النظرة الفضولية إلى أسواق الطعام بحيواناتها الحية. ونظرية المختبر مُسرِّب الفيروس الذي شلّ الكوكب وقتل الملايين، اقترنت بسيناريوَين: المؤامرة، والإهمال من المستوى المدمِّر المهدِّد للحياة، والإثنان كانا كفيلَين بجعل الصين "البطل" والـ"أنتي-بطل" في وقت واحد، وفي الرواية الغرائبية نفسها.

وبعد فيديوهات وصور عن صرامة تطبيق الحجر الصحي إلى حد التذكير بـ"الثورة الثقافية"، والأخبار عن كمّ أفواه أطباء وعلماء حاولوا تحذير مواطنيهم والعالم من الفيروس الطالع، ومَنع خبراء المنظمات الدولية من زيارة "بلد المنشأ" والاستقصاء عن ولادة "الطاعون الجديد"، جاء اللقاح الذي ترفض الصين مشاركة المعلومات بشأنه، وفاعليته التي اختُلف عليها، وازدهار تصديره الذي سبق لقاحات الغرب، ليضفي على صورة الصين المزيد: ليست ألواناً إضافية أو معرفة أعمق، بل مَشاعر.. مشاعر الجنس البشري انصبّت على بلد وكأنه صاحب "ذات"، وجهٌ في فيلم، إسم في كتاب ظلامي مشوّق.. إعجاب، افتتان، حنق، كراهية، ذهول... سِحر لا يضاهيه "عِلم الأبراج الصينية".

مثل الولايات المتحدة، الاتحاد السوفياتي، وكوريا الشمالية؟ ربما. لكن الصين لم تتقولب في دور العالِم الروسي المجنون في أفلام جايمس بوند، ولا الرئيس الأميركي الذي ينقذ البشرية من كارثة فضائية، ولا الزعيم الكوري غريب الأطوار. بل هي التي تصنع المأزق الملحمي الذي نعيشه (أو لا نعيش)، صاروخها الهائم وكورونا الفتّاكة، والعقل الملتوي الذي يحكم بلداً متقدماً ومتخلفاً إلى هذه الدرجة. وقبلاً، كانت مقبّلات شتى على مائدة الإثارة.. هاتف خلوي متطوّر جذاب ورخيص ومفتوح على التجسس، موضة باريس وميلانو في متناول مَن لم يكونوا ليطالوها لولا "متاجر العَرَق" وعمالة الأطفال. ومحطة فضائية يُقال إنها سترث المحطة الدولية المُحالة إلى التقاعد قريباً، لكن صاروخها العائد يقلق سكان اليابسة والمحيطات.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها