الإثنين 2021/05/31

آخر تحديث: 12:02 (بيروت)

ليلة في سرير ملكة بريطانيا

الإثنين 2021/05/31
ليلة في سرير ملكة بريطانيا
فندق الهلال في عدن
increase حجم الخط decrease
وصلت إلى فندق كريسنت (الهلال) في عدن، بعد أشهر قليلة من المجزرة الرهيبة التي شهدتها المدينة في 13 يناير/كانون الثاني 1986. كان الوقت بعد منتصف الليل، وفي الطريق من المطار إلى الفندق، لم يكن هناك سوى مدرعات وحواجز أمنية على مفارق الطرق، فالبلد لا تزال في حالة استنفار بسبب استمرار تداعيات الحرب الأهلية الخاطفة التي حدثت بين جناحين من الحزب الاشتراكي الحاكم. وقد حاول الرئيس علي ناصر محمد، حسم النزاع الداخلي لصالحه صبيحة 13 يناير، بتصفية الجناح المضاد له خلال اجتماع المكتب السياسي للحزب، لكنه فشل وأشعل بذلك فتيل مواجهة أهلية دامية استمرت حوالى الشهر وخلفت قرابة 10 آلاف قتيل.

في الطريق سألني السائق الذي قدم لاستقبالي في المطار، وهو من وزارة الاعلام، عن البلد الذي قدمت منه، وسبب زيارتي. فأجبته بصراحة لأن المعلومات الخاصة بي موجودة في حوزته، لكنه استدار نحوي ونظر بريبة من دون كلام، وكأنه يريد أن يطابق المعلومات مع الصورة. وتنهد قليلا ثم بادرني أنت أول صحافي يدخل البلد منذ توقف القتال، لا بد أنك محظوظ، وستنال رعاية خاصة. قلت له آمل أن يصدق حدسه، وتضاعف عندي فضول الصحافي الذي يبحث عن انفرادات تتعلق برواية الحرب والغموض الذي يلف اختفاء الأمين العام للحزب عبد الفتاح اسماعيل بعدما خرج من مبنى اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي في مدرعة، لكن أثره اختفى، ونُسجت حوله الروايات. وأشير هنا إلى أن المسألة بقيت لغزاً إلى يومنا هذا، بعد 35 عاماً. والرواية الرسمية التي صدرت عن الحزب هي أنه مات محترقاً داخل المدرعة التي قُصفتْ من قبل الزوارق البحرية وكانت تتلقى أوامرها من أنصار علي ناصر محمد.

حين دلفت الفندق، وجدت موظف الاستقبال في انتظاري، وكان السكون يخيم على المكان. مطعم الفندق والبار والمقهى، كلها مقفلة. لم أكن جائعاً لأني تعشيت جيداً على متن طائرة الخطوط الجوية الفرنسية الآتية من باريس، والتي كانت تتخذ من عدن محطة لها قبل أن تهبط في جيبوتي، حيث القاعدة الفرنسية الكبيرة حينذاك، لذلك لم أفكر في الطعام وأجّلته حتى الصباح، بينما انشغلت بالتفاوض حول سرير الغرفة التي سأنام فيها، وخشيت أن أمضي الليل على سرير عتيق يزقزق طيلة الليل بسبب نومي المضطرب في سرير الليلة الأولى، وعادة ما أستغرق قرابة ثلاثة ايام حتى آلف وأعتاد السرير الجديد. وفي الطريق سألت السائق عن الفندق، وأفادني انه أول فندق تم بناؤه في عدن، ومن المشاهير الذين ناموا فيه، ملكة بريطانيا الحالية اليزابيت الثانية. ولم يكن في علمي أن ملكة بريطانيا كانت قد زارت عدن، وظننت أن السائق يردد بعض المرويات الدارجة على لسان سائقي التاكسي عن الأمكنة، والتي لا تخلو عادة من المبالغة والتزويق.

نمت سريعاً بسبب إرهاق السفر، وساعدني السرير الوثير في مغالبة أرق المكان في الليلة الأولى، ولولا صوت البحر لبقيت نائماً وقتاً أطول. كان هدير الأمواج قوياً في الصباح كما لو أن البحر يقيم في داخل الغرفة، وهو في الحقيقة يبعد عن الفندق قرابة المئة متر، وتظهر في النوافذ المغرقة في القِدَم ما تركه البحر من آثار، بفعل عاملَي الرطوبة والملوحة. لكنها لا تثير الانتباه كثيراً، لأنه بمجرد أن يقف المرء في حضرة بحر عدن، يرحل في سفر الأمواج التي يصل ارتفاع بعضها في حال الهيجان، أمتاراً عديدة، ولحسن الحظ لم نكن في موسم الأمواج، بل في الاسبوع الأول من آب/اغسطس الذي يأخذ فيه البحر شكل الزيت الأزرق بفضل هدوء الرياح.


حين نزلت إلى مطعم الإفطار الصباحي لفتتني في الممرات صور معلقة قديمة، واحدة منها لملكة بريطانيا اليزابيت الثانية وزوجها الأمير فيليب الذي رحل مؤخراً، لكني لم أتوقف أمامها كثيراً، واعتبرتها صوراً من تلك التي تعلقها بعض الفنادق للزينة، واللافت فيها أناقة المكان وترتيبه. وكان علي أن أمر على عامل الاستقبال الذي كان في انتظاري ليقدم لي اعتذارات عديدة، منها عن العطل في الهاتف ما بين الغرف، وذلك بسبب الحرب الأخيرة، وغياب الزبدة عن الافطار الصباحي..إلخ. وقال لي إننا سنعوض عليك ذلك بأن نجعلك ترتاح هنا، وقد منحناك غرفة بجوار غرفة نوم ملكة بريطانيا، فهي أمضت إجازتها في الغرفة 121، وأنت في 123. أعجبني تسلسل الرقم 123 الذي يوحي بقوة الحظ. وللوهلة الأولى ظننت أن موظف الاستقبال يمزح، لكنه حين رأى على ملامحي علامات الاستغراب، أوضح لي أن ملكة بريطانيا الحالية باتت في هذا الفندق لدى زيارتها إلى عدن برفقة زوجها الأمير فيليب في 27 ابريل/نيسان العام 1954 وأمضت أياماً في الفندق الذي اتخذت منه مكاناً للاستراحة والاستقبالات التي أجرتها لقادة القوات البريطانية ورموز الجالية وأصحاب الحرف والشخصيات العدنية من سياسيين ورجال حكم وتجار ومثقفين.

الصورة التي كانت في ذهني عن عدن، تلك التي رسمها أمين الريحاني بحب شديد حين زار المدينة في العام 1922 وقدمها في كتابه "ملوك العرب"، كموقع له خصوصية لدى بريطانيا، كونه المحطة الأساسية في الطريق إلى الهند "درة التاج البريطاني". وتحدث الريحاني عن جو التعايش الفريد في تلك المدينة التي عرفت الحداثة والمعارف، قبل غيرها من مدن الجزيرة العربية والخليج، بوصفها نقطة تقاطع بحرية مهمة بين آسيا وشرق افريقيا والهند، وأول مستعمرة بريطانية كان لها الفضل في تعليم النخب اليمنية. وحاولت الجبهة القومية التي حكمت عدن بعد الاستقلال عن بريطانيا في العام 1967، أن تمحو ملامح الشخصية القديمة، لتضفي طابعاً جديداً يليق بتجربة الحكم الجديد الذي قدم نفسه على أنه ماركسي، لكنه لم يغادر القبيلة، وهذا أحد أسباب حرب يناير 1986.

فندق كريسنت، جزء من صورة عدن القديمة التي لم تطمسها التجربة الجديدة، رغم المظاهر السوفياتية الباهتة، ولم تصبه التحولات بالقدر الذي أصابت معالم أخرى، ومع أنه خضع للتأميم الاشتراكي المرتجل والتعسفي، بقيت تسري فيه تقاليد وقواعد العمل السابق الموروثة من مرحلة الاحتلال البريطاني لجنوب اليمن، والذي دام أكثر من 120 عاماً، وترك خلفه فئات متأثرة  بتقاليد المدنية القائمة على الانضباط والنظافة وحس الترتيب، ولم تتخلص منها بسهولة بسبب فشل الحكم الجديد عن تقديم البديل المقنع. وجرى بناء فندق كريسنت في العام 1928، من قبل رجل الأعمال الحضرمي، الشيخ عبد الكريم بازرعة، والذي باعه لاحقاً إلى رجل الأعمال الفرنسي، توني بس، الذي قام بتجديده وإضافة أجنحة أخرى، بما فيها الجناح الملكي الذي تم تجهيزه لاستقبال الملكة. ولأنه على قدر كبير من الفرادة في ذلك الزمن، فقد تركت الملكة بعض التجهيزات التي رافقت رحلتها، وبقي الجناح محجوزاً على شرفها.

كان اليوم الأول في عدن طويلاً ومتعباً، أمضيته في زيارات لبعض المؤسسات مثل وزارة الاعلام وصحيفة 14 اكتوبر، والتقيت بعض الأصدقاء مثل الصحافي معروف حداد والشاعر والصحافي شوقي شفيق والفنان العراقي جعفر حسن، وزرت الرجل الثاني في الحزب سالم صالح محمد، وتناولت طعام الغذاء بمعية كوكبة من المسؤولين في الحزب الاشتراكي والدولة والجيش، وبعض هؤلاء ستربطني بهم صداقات مستمرة حتى اليوم. وحين عدت الى الفندق بعد تخزين القات مع مجموعة من الصحافيين والكتّاب، كنت مشغولاً بفكرة النوم في سرير سبق لملكة بريطانيا وزوجها أن ناما فيه، وتحت تأثير القات الحبشي المنبه القوي، أخذت تتشكل في ذهني تصورات عن الأيام التي قضاها الثنائي الملكي في الفندق، فهما كانا في سن الشباب وفي الفترة الأولى من الزواج، وقصدا عدن في رحلة إلى مكان ذي طعم خاص، ويختلف عن لندن من حيث البيئة والثقافة والمناخ. وبعدما أرهقت نفسي بالتداعيات قررت أن أغفو عند الفجر، لكني احترت إلى أي طرف من السرير أنام. وأخذت أقلّب الأفكار لأهتدي الى طريقة تمكنني من معرفة الجانب الذي أخذته الملكة من السرير الأيسر أم الأيمن. وحسب الدراسات الطبية فإن النوم على الجانب الأيسر أفضل صحياً منه على الجانب الأيمن، ومن المؤكد فإن الأمير فيليب تنازل لزوجته الملكة الشابة عن الطرف الأيسر من السرير، فهو رجل حضاري وفارس ويحترم التراتب بينه وبين الملكة. وبقيت على هذا الحال أفكر بتفاصيل السرير وأشعر بالسعادة لهذا السرير الملكي الذي يحمل هذا الاسم في بريطانيا، لكني صحوت على صوت الأمواج لأكتشف أني كنت في حلم ثقيل من تأثير القات. ورغم أني أمضيت قرابة أسبوعين في عدن إلا أن حلم النوم في سرير الملكة لم يتحقق، وصرت في كل ليلة أستدعي جملة من الهواجس والتخيلات، وحتى النكات المشبعة بالغيرة من الأمير فيليب. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها