الكتابة بلا نقاط: نكوص داخل الصدى

في اليوم الثالث، وقبل أن تنطلق الصواريخ والطائرات، بيوم واحد، أصدر المكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة، بياناً، وجه فيه "انتقادات حادة إلى مواقع التواصل الاجتماعي الكبرى، متهماً إياها بملاحقة المحتوى الفلسطيني، على خلفية التصعيد الحالي في غزة"، وحمل البيان مواقع فايسبوك وتويتر وإنستغرام، المسؤولية عن "حذف المحتوى الفلسطيني، وحظر عشرات الحسابات الفلسطينية على خلفية نشاطها في تغطية أحداث انتفاضة القدس، وغضبة أهالي حي الشيخ جراح". وبحسب البيان فإن هذه الإجراءات "تمثل دليلاً على تواطؤ إدارات شبكات التواصل تلك مع السلطات الإسرائيلية في "ملاحقة المحتوى الفلسطيني"، وانتهاجها ازدواجية المعايير من خلال غض الطرف عن "المحتوى الإسرائيلي المليء بالتحريض والكراهية والعنصرية" بموازاة تقييد المحتوى الفلسطيني بدعوى مخالفة معايير النشر.

الاستجابة تأخرت، وجاءت في ذروة تصاعد القتال، فأعلنت شركة فايسبوك أنها ستتابع تواصلها مع مسؤولين إسرائيليين وفلسطينيين؛ على حد سواء، لبحث "خطاب الكراهية والتحريض على العنف" في المنصة. وتزامن ذلك مع سيل متعاظم من الأفكار والاقتراحات والاجراءات من الجانب الفلسطيني، مدعوماً بمناصريه العرب والمسلمين والأجانب، لمواجهة تلك السياسات المدانة.

مواجهة

المواجهة في الفضاء الافتراضي، إذاً، تتوسط زمنياً بين المواجهات السلمية والقتالية، ويمكن أن نتلمس فيها ملامح مواجهة فكرية وتقنية معقدة، وتصورات وخيالات حادة، مفتوحة على انحيازات متعددة.

المسؤولون في مواقع التواصل الاجتماعي استشعروا بلا شك خطورة الموقف، وتحركوا بسرعة، فكانت هناك اتصالات، واعتذارات حملت صياغات منضبطة لحد ما، منها اعتذار فايسبوك عن حجب رؤية محتوى الصفحات التى تحمل "هاشتاغ" المسجد الأقصى، الذي ما كان يجب أن يحدث، وكذلك الاعتذار "لكل من شعر أنّ هذه المشكلات هي محاولة متعمدة لقمع آرائهم"، ثم قدمت إدارة فايسبوك للسفير الفلسطيني في بريطانيا، حسام زملط، رسالة اعتذار وإعلان نوايا بتصحيح الأخطاء، رداً على "الشكوى التي تقدمت بها دولة فلسطين عن تقاعس الشركة عن مسؤولياتها القانونية والأخلاقية في احترام القانون الإنساني الدولي وحق الشعب الفلسطيني في التعبير عن الاضطهاد الذي يتعرض له، والنضال من أجل إنهائه".

هكذا، إذاً، كان "القتال" الافتراضي سريعاً، بدأ وانتهى بسلاسة نسبية، لكن ما أثاره وخلّفه أعمق مما يبدو.

من المفترض أن كل مستخدم لمواقع التواصل الاجتماعي- سنركز على فايسبوك- يدرك أنها تضع، وتعلن، سياسة محددة للمستخدمين، من بينها إيقاف أصحاب المنشورات إذا كتبوا تعليقات أو منشورات تحض على الكراهية أو تسيء إلى الأديان، وأن الحظر من الاستخدام متدرج يبدأ من أربع ساعات، وقد يستمر أسبوعاً، كما إنه قد يصل إلى وقف الحساب لمدة ثلاثة أشهر. ومن المفترض أيضاً أن المستخدم يدرك أن "الرقابة" على المحتوى تتم بصورة آلية في الغالبية العظمي- لا أفراد يتتبعون هذا المحتوى- إلا إذا كانت هناك شكوى محددة، وهذه الآلية يطلق عليها الخوارزميات، والمصطلح جاء تكريماً للجهود العلمية الجليلة التي قدمها للإنسانية الخوارزمي (أبو عبد الله محمد بن موسى)، عالِم الرياضيات والفلك والجغرافي المسلم، المتوفى بعد 232 هجرياً -847 ميلادياً.

هذه الافتراضات تبين؛ مع نشر بيان المكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة، أنها تعمل بصورة غير مرضية، وأن المستخدم المتماهي مع الأحداث سيجد نفسه مقيداً بسياسات، وحدود تقنية مصممة على معايير قياسية، قد تبدو غير منصفة في الواقع، وهنا انطلقت حملات "مقاوِمة" طموحة للتحايل على الرقابة الآلية.

من بين تلك الحيل مثلت طريقة الكتابة من دون نقط أكثر الطرق إثارة وتشويقاً، عن تلك التي عمدت إلى كتابة كلمات، وبين حروفها نقطة، مثل (الصها.ينة) أو الاستعانة بحروف إنكليزية وسط الكلمات العربية مثل (إسrرائيل)، ذلك أنها فتحت المجال للحديث عن تاريخ الكتابة باللغة العربية، الذي يستدعي قصصاً وحكايات متصلة بتدوين القرآن، وتنقيطه، وإشكاله، وكذلك تلك القصص المتصلة بالصراع السياسي- الديني في صدر الإسلام، بين "على وبَنيه"، وبين معاوية وابنه؛ والذي أطلق عليه طه حسين تعبير "الفتنة الكبرى". 

حيلة

كتابة الكلمة العربية من دون استخدام نقاط، هي، إذاَ، حيلة للفرار من الرقابة الآلية، لكنها بتعقيدها وبما أثارته من أسئلة، وربما حساسيات، أشبه بعرض النكوص، بمعناه النفسي، حيث يرتد الطفل إلى مرحلة كان قد تجاوزها، فيعود إلى التلعثم والتأتأة، بعدما كان قد اكتسب القدرة على نطق الكلمة وتكوين الجملة، أو يعود ليحبو بعدما كان قد تدرب على المشي. لكن أهم ما تشير إليه حيلة كتابة الكلمة العربية من دون نقاط، هو السياق العام الكلي الذي يصوغ العلاقات الاجتماعية الجديدة في حضور تلك المواقع، ما يكشف بدوره الطبيعة المعقدة للصراع في فلسطين وحولها، ومن ثم ينبّه إلى عمق الأزمة في صورة الذات والآخر في المخيال العربي والإسلامي.

وهنا سنستعين بملاحظات أولية تأسيسية لأي مقاربة لتأثير مواقع التواصل الاجتماعي في حياتنا، تلك التي قدمها أستاذ الإعلام والفيلسوف الكندي، مارشال ماكلوهان (1911 - 1980)، في كتابه "مجرة غوتنبرغ"، حيث يرى أن أجهزة الاتصال الإلكترونية ـ خاصة التلفاز ـ تُسيطر على حياة الشعوب وتؤثر في أفكارها ومؤسساتها، وأن كل حقبة زمنية كبرى في التاريخ تستمد شخصيتها المميزة من الوسيلة الإعلامية المتاحة آنذاك على نطاق واسع. فالطباعة شجعت على الفردية والنزعات القومية، والديموقراطية، والنزوع إلى الخصوصية، والتخصص في العمل، والتمييز بين العمل ووقت الفراغ. أما عصر الإلكترونيات فجعل الاتصال سريعًا، لدرجة أن الشعوب ـ على اختلاف مواقعها في العالم ـ تنصهر في بوتقة واحدة، وتشارك بشكل عميق في حياة الآخرين. والنتيجة، كما يرى، أن الوسائل الإلكترونية تقضي على الفردية والقومية، وتسرع نمو مجتمع عالمي جديد. أما أهم ما قدمه فهو عبارته الشهيرة: "الوسيط هو الرسالة"، فتلك التقنيات (المطبعة، التلفاز) ليست مجرد اختراعات يستخدمها الناس، لكنها الوسيلة التي تتم من خلالها إعادة اختراع الناس. 

وتأتي في صلب موضوعنا الملاحظات المهمة التي طرحها عالم الاجتماع البولندي، زيغمونت باومان (1925 - 2017)، في حوار أُجري معه قبل وفاته بأقل من عام، وفيه نافح عن مقولاته في أن الإنسان بصدد الدخول في عصر يُجلّ الاتصالات بشكل أكبر من العلاقات الاجتماعية "التقليدية- الطبيعية".

باومان

يرى باومان أن ظهور فايسبوك في 2004 وتويتر في 2006 خلق شيئًا مختلفًا، لم يعرفه الإنسان من قبل، فالمستخدم متأكد أنه سيجد دائمًا شخصًا ما مستعدًا لاستقبال رسائله وحتى الرد عليها، فإنك لا تكتب لشخص واحد وصديق أوحد لا يمكن استبداله، لكن، بالعكس، [فمن تكتب إليه] قابل للاستبدال في نهاية المطاف بمئات آخرين. 

يقدر باومان أن الخوف من تدهور الوضع الاجتماعي يسيطر على الإنسان بقسوة، حالياً، فالخوف من أن يتم التخلي عنك أو أن تصبح مستبعدًا أو مطرودًا من بيتك هو [خوف] حقيقي للغاية وليس متخيلًا. لكنك إذا جلست أمام جهاز الكمبيوتر الخاص بك، من الممكن أن تنسى ذلك. 

ولوصف الأهمية البالغة لمواقع التواصل الاجتماعي بالنسبة لمستخدميها يقول باومان: "نحن لا نفارق الشاشات. نحملها معنا أينما ذهبنا. فإذا نسيتها، تشعر وكأنك نسيت سروالك أو تنورتك. لذا، فإن الوهم هو أننا لسنا وحيدين. لكن في ذاك العالم الافتراضي الذي نعيش فيه، نضع قلقنا جانبًا. نعم، نتناسى هذا القلق، لأن الضغط المصاحب لكونك على الدوام متصلًا بمئات الأشخاص يساعد على إخماد [القلق] بشكل مؤقت.

ويبرز، باومان، أن الناس المتصلين بالإنترنت لديهم آمال بأن تلك الشبكة من شأنها أن توسّع آفاقنا. إذ أننا يمكننا من خلالها الوصول إلى أي شيء يحدث في أي مكان في العالم، إلى كل الدول وكل القضايا وكل الأيديولوجيات. كل شيء في متناول أيدينا، لا يجب أن نجهد أنفسنا في الوصول. كل شيء موجود.

هذه الرؤية لتأثير مواقع التواصل الاجتماعي، تكتسب كثافة طاغية عندما توضع في سياق محاولات التحايل على "شروط" الخوارزميات في خضم أعمال قتل وتدمير واقتلاع من الأرض والتشريد التي يواجهها الفلسطيني يومياً، وفي كل لحظة، وهناك "جمهور" يشعر بالخوف، وأحياناً بالعجز، فلا يجد إلا الشاشات التي يلتصق بها، والتي أضحت جزءاً من تكوينه الفيزيقي، فالتفاعل عبرها أشبه بدفاع عن الذات، وإذ تقيد قدرته على ذلك، تأتي حيل النكوص، ودعوات المقاطعة، والدعاوى القانونية.

تبقى ملاحظة بارعة لباومان، فهو يرى أن غالبية مستخدمي الإنترنت خلقوا ما يمكن أن يسمى بغرف الصدى، حيث كل ما يمكن سماعه في تلك الغرف هو مجرد أصداء لأصواتهم هم. وإذا صح ذلك، فإن ما فعله فايسبوك في البداية، من حجب لمئات الحسابات، أوجد "معركة كبرى" شعر معها كثيرون بأن النكوص حائط دفاع وخطوة في سبيل النصر، لكن هل يحدث ذلك كله بين جدران الصدى؟