الخميس 2021/05/27

آخر تحديث: 13:42 (بيروت)

تكريم محمد محمود خليل..عاشق الفن الذي تجاهل الفنانين مواطنيه

الخميس 2021/05/27
increase حجم الخط decrease
لمناسبة "اليوم العالمي للتراث"، أصدرت الهيئة القومية للبريد في مصر، طابعاً تذكارياً خاصاً بـ"متحف محمد محمود خليل وحرمه". وحيّت وزيرة الثقافة ايناس عبد الدايم هذه الخطوة، وقالت ان هذا الطابع "يؤكد قيمة المتحف باعتباره أحد اهم المواقع المتخصصة في العالم، ويضم مجموعات فنية نادرة، تمثل جانباً من إبداعات الحضارة الإنسانية الحديثة". 

يقع هذا المتحف في حيّ الجيزة في القاهرة، على مسافة قريبة من فندق شيراتون، بين كوبري الجامعة وكوبري الجلاء. وهو في الأصل قصر كبير من الطراز الفرنسي الكلاسيكي الحديث شُيّد في مطلع القرن العشرين، يتكوّن من أربعة طوابق، وتحيط به حديقة شاسعة. اقتنى السياسي محمد محمود خليل بك هذا القصر ليقيم فيه، وأثّثه مع زوجته الفرنسية إميليان لوس على الطراز الأوروبي السائد في ذلك العصر، وجمع فيه ما اقتناه من لوحات وتماثيل وتحف منذ مطلع القرن الماضي حتى وفاته في 1953 إثر نوبة قلبية حادة.

كان صاحب هذا القصر من كبار الأثرياء، ولم ينجب من زوجته الفرنسية، وعمد إلى توزيع تركته على أقربائه بشكل قانوني يتوافق مع الشريعة قبل رحيله، وأوصى بقصره ومحتوياته إلى حرمه بعقد مسجل في عام 1947، ولم يفكّر قط في تحويله إلى متحف. أشهرت الزوجة إسلامها لتنتقل ملكية القصر إليها تلقائياً، إلا ان ذلك لم يتمّ بسبب ظهور حسناء شركسية تُدعى سعاد راشد ادعت بأن البك اقترن بها في خريف عمره، وأنجب منها ابنا يبلغ التسع سنوات. اعترضت الزوجة المصرية على حصول الزوجة الفرنسية على القصر بمحتوياته، وقالت بأنه من نصيب ابنها القاصر. ورفضت الزوجة الفرنسية هذا الادعاء، وأوحت بأنها لم تنجب لكون زوجها مصابا بالعقم. استمر الصراع بين الفريقين، وانتهى عند وفاة الزوجة الفرنسية في آذار 1960 عن أربعة وثمانين عاما، حيث أعلن محاميها أن موكلته وهبت القصر المتنازع عليه إلى الدولة كي يتحول إلى متحف يحمل اسم "محمد محمود خليل وحرمه"، مما يوحي بأنها اتخذت هذا القرار كي لا يذهب القصر بما يحويه لابن غير شرعي يحمل اسم زوجها.

حسمت الدولة المصرية السجال الدائر بسرعة قصوى، وآل القصر بمحتوياته إلى الدولة إثر جنازة الزوجة الفرنسية، وتحول إلى متحف بعد خمسة أشهر. بعد أكثر من عشر سنوات، أخلّت الدولة بوعدها عندما وقع اختيار الرئيس أنور السادات على القصر ليكون مقرا له، وقامت وزارة الثقافة عندها بنقل محتوياته إلى قصر عمرو باشا إبراهيم في الزمالك. جُدّد قصر محمد محمود خليل في عهد مبارك، وأعيد افتتاحه كمتحف في أيلول 1995، وأصدرت وزرارة الثقافة كتابا بعنوان "محمد محمود خليل، المتحف والرجل". في 2010، أُغلق هذا المتحف لتطويره أثر سرقة لوحة لفان غوغ منه، وبقي مغلقا إلى أن تمّ افتتاحه مجدّدا في العام الماضي، وعاد الحديث عنه اليوم مع اصدار طابع تذكاري خاص به، كما عاد الحديث عن مجموعة اللوحات التي يحتضنها، وتجدّد السؤال الذي يطرح نفسه منذ عقود من الزمن: من هو محمد محمود خليل ومن هي حرمه؟ كيف اقتنى الزوجان هذه اللوحات التي لا تقدّر اليوم بثمن؟

وُلد محمد محمود خليل عام 1876 من أب مصري يشغل وظيفة مهمة في الديوان الخديوي وأم يونانية، ونشأ وسط عائلة تمتلك أراضي زراعية شاسعة، وتلقّى علومه في الليسيه الفرنسية في القاهرة، ثم سافر إلى باريس في عام 1897 ليدرس الحقوق في جامعة السوربون. خلال إقامته في باريس، التقى الشاب المصري بشابة فرنسية من عائلة متواضعة تُدعى إميليان هيكتور لوس، ويُروى أنها كانت راقصة مغمورة تدرس الموسيقى في الكونسرفتوار، وكانت عاشقة للفنون والاقتناء. أحبّها، وتزوّجها في عام 1903، وعاد إلى مصر بعد اتمام دراسته، وعمل وكيلا لمجلس الشيوخ المصري، وتولى بعدها منصب وزير الزراعة في حكومة الوفد عام 1937، ثم عيّن رئيسا لمجلس الشيوخ في عام 1938، وشغل هذا المنصب حتى عام 1942.

جمع محمد محمود خليل بك بين السياسة والفن، وساهم مع الأمير يوسف كمال في تأسيس "جمعية محبّي الفنون الجميلة" عام 1923، وتولى رئاسة هذه الجمعية بعد عام. ثم أشرف على الجناح المصري في المعرض الدولي الفنون الذي أقيم في العاصمة الفرنسية عام 1937، كما أسهم في إقامة معرض فرنسي للفنون الجميلة والديكور في القاهرة عام 1938. حمل لواء الثقافة الفرنسية في مصر، فكرّمته فرنسا، وانتدبته مراسلا للأكاديمية الفرنسية للفنون الجميلة في سنة 1948، وقبلته عضوا في هذه الأكاديمية سنة 1949، وجاء هذا التتويج بعد أن أشرف البك على إقامة معرض كبير لفن الديكور في العاصمة الفرنسية بعنوان "مصر- فرنسا". نقلت مجلة "المصور" الخبر، وحيّت "هذا الرجل الكبير الذي نفع مصر بعلمه وفضله وماله"، وقالت ان فرنسا انحنت له "إجلالا ومنحته أرفع أوسمتها، وضمته إلى أسرة أكاديمية الفنون". وأضافت: "إن هذا الشرف الذي ظفر به محمد محمود خليل ليس له وحده. وإنما هو لمصر كلها".

على مدى نصف قرن من الزمن، اقتنى محمد محمود خليل وزوجته إميليان هيكتور لوس مجموعة كبيرة من الأعمال الفنية الفرنسية، وذلك في حقبة ظهر فيها عدد من المولعين باقتناء اللوحات في القاهرة كما في الإسكندرية، غير أن المجموعات الخاصة التي تركها هؤلاء المولعين تبعثرت مع الزمن، بخلاف مجموعة البك وحرمه. تحول قصر الزوجين إلى متحف، وحُفظت فيه المجموعة باسم صاحبيها. كانت أول لوحة اقتنياها زيتية من توقيع الفنان الانطباعي بيار أوغست رنوار دفعت فيها إميليان أربعمئة جنيه في عام 1903. كتب محمد محمود خليل في مذكراته معلّقا: "انه مبلغ كبير، أنا لا أتصور أن يدفع كل هذا المبلغ في لوحة واحدة، لكن إميليان تقول إننا رابحون من هذه الصفقة، ومن يدري فقد نكون كذلك". هكذا شرع البك وحرمه في اقتناء الأعمال الفنية، وشكّلا مجموعة كبيرة، وتميّزت هذه المجموعة في الدرجة الأولى بكونها مجموعة انطباعية فرنسية تشمل لوحات أكبر أعلام هذه المدرسة، ومنهم رنوار، مونيه، مانيه، دوغا، بيسارو، سيسلي، غوغان، فان غوغ، وتولوز لوتريك.

إلى جانب هذه الأعمال الانطباعية، تحوي هذه المجموعة الخاصة أعمالا فنية لعدد من أكبر الفنانين الفرنسيين الذي ظهروا قبل نشوء المدرسة الانطباعية، ومنهم ديلاكروا، كوربيه وكورو. كما تحوي زيتية من توقيع روبنس، أشهر الرسامين الفلامنكيين في القرن السابع عشر. من جهة أخرى، اقتنى الزوجان العديد من الأعمال النحتية الفرنسية، منها أعمال من نتاج أشهر نحاتي فرنسا في القرن التاسع عشر، أنطوان لويس باريي وجان باتيست كاربو، ومجموعة من نتاج أوغست رودان تضم بورتريها من الجص للأديب بلزاك، وقطعا عديدة من البرونز منها: حواء، القبلة، المفكر وبورتريها نصفيا لفيكتور هوغو. من جهة أخرى، أولع محمد محمود خليل وحرمه كما يبدو بفن الخزف الآسيوي، وشكلا مجموعة كبيرة من القطع اليابانية والصينية، وهذه المجموعة حاضرة في المتحف الذي يحمل اسمهما.

جرى تصنيف مجموعة الأعمال الفرنسية الانطباعية بشكل علمي عام 1994 عند تنظيم معرض بعنوان "منسيّو القاهرة" في متحف "دورسي" الباريسي عام 1994. قام أهل الاختصاص بتأصيل مصادر اللوحات في فرنسا، وذلك بالعودة إلى سجلات جهات البيع الأولى في النصف الأول من القرن العشرين. تردّد اسما "محمد محمود خليل" و"مدام محمود خليل" في هذه السجلات، وتبين على سبيل المثل أن لوحة "الحياة والموت" لغوغان بيعت أولا لإدوار برناديس، ثم انتقلت إلى مجموعة شوسترمان قبل أن يقتنيها بدوره محمد محمود خليل. أما تمثال بلزاك الذي صنعه رودان، فهو في الأصل من مجموعة هنري دو برين، وقد انتقل إلى مجموعة برينو، ثم عُرض للبيع في "غاليري جورج بوتي"، ومنها اشتراه البك. كذلك، تبين أن محمد محمود خليل اقتنى لوحة لدولاكروا وأخرى لغوستاف كوربيه من صاحب محلات "بنزيون" الشهير، ضمن مزاد أقيم في القاهرة في شهر آذار عام 1947.

من المفارقات، أن محمد محمود خليل رافق ولادة الحركة الفنية المصرية في بداياتها، لكنه لم يناصرها ولم يشجعها. كان سفيرا فنيا لفرنسا في بلاده، لكنه لم يشارك في النهضة المصرية، على عكس الأمير يوسف كمال الذي دعم رواد الحركة الفنية في مصر الملكية. في تلك الحقبة المتحولة، ظهرت في مصر جماعات وتكتلات تشكيلية عديدة كان لكل منها رؤيتها الخاصة. ولدت "الجمعية المصرية للفنون الجميلة" عام 1920، وقامت بتنظيم معرضين، الأول في عام 1921 والثاني في العام التالي. بعدها، أنشئت "جماعة الخيال" في عام 1923، ثم "جمعية محبي الفنون الجميلة". وحاربت "جماعة الخيال" الجمعية التي يرأسها محمد محمود خليل، وكان هدفها إحياء الفن المصري بجميع أشكاله داخل البلاد وخارجها.

في الخلاصة، جمع محمد محمود خليل مع زوجته مجموعة استثنائية من الأعمال الفنية الغربية، وساهم في إقامة التظاهرات الفنية الكبيرة في فرنسا كما في مصر، لكنه لم يدعم فناني بلاده. عند وفاته، أٌبّن في جامع باريس الكبير بحضور حشد من كبار الشخصيات الرسمية الفرنسية، السياسية والثقافية، ورثاه السياسي الشهير موريس كوف دو مورفيل بكلمة وصفه فيها بـ"أكبر صديق عرفته فرنسا". عُرف هذا السياسي المصري في زمنه بولهه الفرنسي بالفنون، وبقيت هذه الصورة حية بفضل المتحف الذي حمل اسمه.

في رسم كاريكاتوري من توقيع ألكسندر صاروخان، يظهر محمد محمود خليل بك وهو يتقدم في اتجاه برج ايفل، رافعا بيده اليسرى العلم المصري. وفي منحوتة كاريكاتورية من نتاج محمد حسن تحمل عنوان "الفرسان الثلاثة"، نراه ماشيا إلى جوار زميليه في مجلس الشيوخ علي باشا ماهر وأحمد باشا ماهر، حاملاً في جيب معطفه تمثالا صغيرا لإلهة الحب والجمال فينوس.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها