الثلاثاء 2021/05/25

آخر تحديث: 14:01 (بيروت)

"أمور لا تُرى": الجسد المفكك وجثة الرقص المختفية

الثلاثاء 2021/05/25
"أمور لا تُرى": الجسد المفكك وجثة الرقص المختفية
ستيفاني كيال
increase حجم الخط decrease
في غرفة جلوس تتوسطها سجادة بنّية اللون، تستريح مجموعة من الأشخاص متنوعي الأعمار بعد إنهائهم طعام الغداء. في خلفية المشهد نسمع أغاني لبنانية وأجنبية من فترة التسعينات، بموازاة أحاديث متبادلة بين أفراد المجموعة، تنخفض تارة، وترتفع تارة أخرى. بلا سبب، تقرر إحدى الفتيات الوقوف والرقص على أغنيتها المفضلة، رغم أنها لم تتلق دعوة من أحد للقيام بهذه الخطوة. يشجع ذلك ابنة خالتها، التي تنضم إليها، مستعرضة حركة جديدة تعلمتها من أحد البرامج التلفزيونية. بعد دقائق، يقرر الأب أن يحمل الكاميرا ويأخذ صورة فوتوغرافية. يتجمد الجميع في أمكنتهم ويبتسمون لثانية أو ثانيتين، ثم يعود كل شيء الى ما كان عليه.

يشكل هذا المشهد مقدمة عرض راقص بعنوان "أمور لا تُرى" (28، 29، 30 أيار في مسرح المدينة)، كوريغرافيا ستيفاني كيال وموسيقى عبد قبيسي (العرض بدعم من "المورد الثقافي"). علما ان نسخة العرض اكثر اختزالية وتضم فقط شخصيتين من المجموعة، التي عوضا عن ان نراها، نشعر فقط بوجودها من خلال وضعيات جسد الراقصة وطريقة حركتهما داخل الفضاء المكاني. استوحى الثنائي هذا المشهد من صورة مأخوذة عام 1982، تظهر أفراد عائلة وهم جالسون في حديقة منزلهم، حيث تدل وضعيات اجسادهم وتعابير وجوههم، على مشاعر الخفة والاسترخاء التي كانت مهيمنة خلال تلك اللحظات.



اكتسبت الصورة أهميتها، في عيون الثنائي، بسبب ما تقدمه من راحة لمشاهديها، كما تذكرهم بلحظات الأمان الماضية، وأصبحت اليوم بحكم المختفية. طبعاً، من الصعب عدم تفسير هذه المشاعر سوى بالنوستالجيا، التي تزداد وتيرتها مع تردي الأوضاع في الحاضر، ما يدفع الناس إلى البحث عن لحظات من الماضي، لتكون مهرباً لهم. لكن هل النوستالجيا كاذبة دائماً؟

ترى ستيفاني كيال أن أنماط السلوك المرتبطة بمشاعر الأمان، كالرقص التلقائي الذي يحدث بلا سبب بالضرورة، أصبحت عناصر بحكم المختفية من يوميات عائلتها، ما ينطبق على أنماط سلوك أخرى، كالزيارات المفاجئة بين الأقارب، والجلسات غير الرسمية التي كانت تدل على نوع من التلقائية، وقد تراجع حضورها كثيراً بيننا. .لا تحدد كيال سبباً حاسماً لهذه الاختفاءات، لكنها تراها مرتبطة بالتغيرات الاقتصادية والإجتماعية التي حصلت في بداية التسعينات.

والأمر نفسه ينطبق على عبد قبيسي، الذي يؤكد أن الأمر نفسه حصل مع عائلته أيضاً، التي كان أفرادها أكثر ارتياحاً مع أجسادهم مما هم الآن: "أي مكان كان من الممكن ان يتحول الى مساحة للاحتفال والرقص، من درج البناية الى البلكون الى حديقة المنزل. عند ذهابنا إلى نهر القاسمية في الجنوب، كنت أرى كيف ترقص النساءـ المحجبات منهن وغير المحجبات، من دون أن تأبهن للعيون حولهن. لكن اليوم، أصبحت هذه المشاهد أقل حدوثاً، ومن الصعب تخيلها. المستغرب أكثر اننا لا نتحدث عن الموضوع أبداً، كما لو أنه تابو او حتى جريمة قتل حصلت وتواطأ الجميع لإخفاء الجثة. أما عن أسباب هذا التحول، فيتحدث قبيسي عن الهبوط الإجتماعي الذي اختبرته الطبقات الوسطى في بداية التسعينات، مع انتهاء مرحلة اقتصادية وبداية مرحلة جديدة، وهو ما تسبب بإصابة شرائح واسعة من اللبنانيين بالرعب من تحولهم إلى فقراء، بالاضافة إلى أسباب أخرى مثل هيمنة التيارات الدينية على الفضاءات العامة في بعض المناطق، على حساب الأحزاب اليسارية.

يمكننا أيضاً التفكير في التحولات الثقافية المرتبطة بالانتقال من الريف الى المدينة، بما أن أحد أوجه التمدّن هو ازدياد الميل للسلوكيات المحافظة، والابتعاد عن التصرفات التلقائية التي نجدها أكثر حضوراً في المجتمعات الريفية والشرائح الشعبية. 


في كل الأحوال، هذه التغيرات دفعت الثنائي إلى مُساءلة شعور الفقدان الذي نشعر به تجاه سلوكيات كانت جزءاً من حياتنا اليومية واختفت ببساطة، أو حتى مساءلة الأشياء التي لا تزال معنا، كالبيوت مثلاً، التي بفعل تغيرات كثيرة داخلها، صارت اليوم غريبة على أصحابها.

من جانب آخر، فإن التغيرات، التي لاحظها الثنائي ضمن عائلتيهما، جعلتهما يطرحان أسئلة حول تأثير الضغوط الإجتماعية والسياسية في الأجساد وأنماط السلوك اليومية، لا سيما في زمننا الراهن الذي تكثفت فيه الأزمات وتنوعت، خلال فترة قصيرة، من الجائحة إلى الإنهيار الاقتصادي وانفجار المرفأ، ما ترك أثراً دامغاً في الأجساد الهشة، معززاً اغترابها واستلابها. ويشبّه الثنائي، التعامل مع شعور الفقدان، بمتلازمة الأطراف المبتورة  أو شبح الأطراف: حين يتعامل الجسد مع عضو مقطوع منه، كأنه لا يزال موجوداً، فيرسل أحاسيس إلى الدماغ الذي بدوره يتجاوب كأن شيئاً لم يتغير. يصبح الجسد في هذه الحال كأنه غائب وحاضر في الوقت نفسه. ففي لحظة معينة، يتعامل مع الماضي كجزء من الحاضر، ثم في لحظة أخرى يتذكر أن الماضي منفصل عنه ومضى بالفعل.

في هذا السياق، يمكن فهم تأويلات ستيفاني كيال الأدائية والحركية لموضوع الفقدان، والتي ترتكز على تفكيك الجسد وأعضائه، بالاعتماد على العلاقة مع تبدل السياقات، إن كان في المنزل او الخارج، مع الأصدقاء أو مع الغرباء، عند الشعور بالأمان أو عند الشعور بالقلق. ليصبح الجسد في العرض أجزاء متعددة، تتحرك كل منها بلا تناسق بينها، سوى في لحظات قليلة.

وتلعب موسيقى قبيسي هنا، دوراً أساسياً في تحديد سياقات هذا التفكيك والتجزيء. فتصبح مرة آلة زمنية تنقل الجسد من الماضي إلى الحاضر (والعكس)، ومرة أخرى سيارة تحرك الجسد في شوارع  المدينة وبين بيوتها كي تؤكد لنا أن السكان يعيشون أزمات مشابهة لأزماته. لكن هذا لا يعني ان الموسيقى دائماً انعكاس لحركة الجسد، بل غالبا لديها سردها الخاص والموازي في العرض، عبر معالجتها للممارسات الصوتية التي كانت دارجة خلال التسعينات مثلاً في مشاوير السيارة وعند تحريك إبرة الراديو بين المحطات أو خلال حفلات البيوت وأعياد الميلاد التي نختار لها عادة نوعاً محدداً من أغاني البوب (التي يتجاوب الجسد معها بخفة ولا تتضمن ادعاء معاني ورسائل ضمنية). كما تحاول الموسيقى أيضا تقديم تفكيكها الخاص للمنزل والجسد والذاكرة، بما يوازي مسار التفكيك الذي تقوم به كيال عبر الرقص والأداء، قبل أن يعيد الثنائي عقارب الساعة للوراء، ويشرعان، بتركيب الأجزاء المتفرقة هذه، مشكلين منها عمارات جديدة، جسدية وموسيقية. والجدير بالذكر أن قبيسي لا يحضر في العرض بموسيقاه وحدها، بل هو منخرط كشخصية رئيسة، يخدم السرد بطريقة حركته وتصرفاته والكلمات التي يقولها، من دون أن يكتفي بمراقبة الراقصة كما يحصل في حالات كثيرة ضمن هذا النوع من العروض.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها