الإثنين 2021/05/24

آخر تحديث: 13:06 (بيروت)

إصدار جديد لـ"التنين": مراجعات ما بعد الكارثة

الإثنين 2021/05/24
increase حجم الخط decrease
في بداية النشاط الموسيقي لثنائي "التنين" عبد قبيسي وعلي الحوت، كان التوجه العام للمشروع هو "تفكيك" اللغات الموسيقية المحلية والعربية إلى أجزاء أو مفردات، ثم تطوير هذه المفردات بشكل منفصل، من دون شعور بالذنب او رغبة بالإعتذار (من التراث). 

للوصول لهذا الهدف استخدم كل من عبد قبيسي (بزق كهربائي مع قوس، درامز إلكتروني، وتأثيرات صوتية) وعلي الحوت (آلات إيقاعية مختلفة، درامز، وتأثيرات صوتية) التجريب كطريقة للبحث عن إحتمالات جديدة ضمن الموسيقى والآلات التقليدية، وهو ما ترجم لاحقاً بابتكار قبيسي طريقة عزف جديدة على البزق باستخدام القوس، ثم لاحقاً باتصال الآلات بالكهرباء وخلق اصوات أكثر معدنية وإلكترو–آكويسيتيكية.

تناغم هذا مع توجه آخر للفرقة نحو البيئات الصوتية التي نعيش ضمنها في بيروت او المدن المعاصرة بشكل عام، بكل ما تحمله من عنف صوتي او ضجيج ميكانيكي-صناعي وكهربائي. لكن، بعد عامين تقريباً من الانطلاقة، بدأت الفرقة تغيير توجهاتها والتخلي عن التجريب والتفكيك، في مقابل إعادة النظر في العنصر السردي الذي يعتبر بنيوياً في الموسيقى العربية، ومرتبطاً بشكل وثيق بالمستوى العاطفي منها. فمنذ البداية وضع "التنين" هدفاً لنفسه هو "دفع الموسيقى المحلية والعربية إلى أمكنة جديدة"، لذلك كان من الضروري الإبقاء على شيء من هوية الموسيقى الأصلية وعدم الدخول بمسارات "تحمّلها فوق طاقتها".

لم تشهد الموسيقى العربية، سابقاً، انفصالاً فعلياً عن الكلام والشعر، أما الاستثناءات القليلة كالبشارف والسماعيات والدواليب، التي كانت جزءاً من الوصلة التقليدية، فلم تتمكن من أخذ حيّز كافي من المشهد العام (ما ينطبق أيضاً على مقاطع الموسيقى التي ازداد حجمها بشكل ملحوظ في أعمال أم كلثوم مثلاً، خلال النصف الثاني من القرن العشرين، لكنها بقيت أقرب للمقبلات التي تمهد لوصول الطبق الرئيسي)، بعكس ما حصل مع أنماط الموسيقى الكلاسيكية التي تطورت في الغرب بشكل منفصل عن الكلام لفترة طويلة.

هكذا وصلت الفرقة إلى حائط مسدود يشبه الحائط الذي وصلت إليه سابقاً موسيقى الجاز الحر، أو الأنماط التي تعتمد على الإرتجال حصراً. دفع ذلك "التنين" إلى تغيير الاستراتيجية وإعادة الإعتبار للبنى السردية التقليدية والمفردات اللحنية المباشرة، وهو ما نجده بشكل واضح في ألبوم "مقدمة للرجل المنتصر" العام 2017. 

حافظ الثنائي على اهتمام بالتفكيك والارتجال، لكن بعيداً من مشروع "التنين". نجد ذلك في ألبومهما المشترك مع الموسيقيين الألمانيين جوس تورنبل وبابلو غو (ترومبيت، إيقاعات فارسية، وتأثيرات مختلفة)  "Data Is" الذي أطلقته شركة Ruptured Records مؤخراً، وهو نتيجة تعاون افتراضي بين الفنانين الأربعة خلال فترة الحجر الصحي (سبق وعزف الأربعة سوياً في مهرجان "إرتجال" العام 2019). يستند الألبوم على نوع من الحرية المطلقة في الإرتجال والتجريب الحر، يلامس اللعب والسخرية أحياناً.

بموازاة "Data Is" أطلقت Ruptured أيضاً ألبوماً ثانياً لكن هذه المرة لـ"التنين" وحده من دون مشاركة موسيقيين آخرين. يحمل الألبوم عنوان "Dance Grooves for the Weary" ويعتمد على مقطوعة "الصدع" التي قام عبد قبيسي بتأليفها بعد انفجار المرفأ بأشهر قليلة، بدعوة من مهرجان CTM الألماني، مهرجان إرتجال، ومورفين ريكوردز. لاحقاً طوّر قبيسي المقطوعة مع علي الحوت لتصبح ملائمة لهوية التنين الصوتية، حيث قُدمتْ بحلّة جديد ضمن مهرجان "إرتجال" 2020. وتبدو هذه المقطوعة مختلفة في بعض النواحي من اعمال سابقة لـ"التنين"، إن كان من جهة تعزيز دور الأصوات والإيقاعات الإلكترونية (درامز الكتروني) على حساب الاصوات الإلكترو–آكويستيك، تبسيط البنية والاشتغال أكثر على خلق مزاج موحد ضمن اقسام المقطوعة، بالإضافة لتخفيف نسب الضجيج والعنف الصوتي إلى مستويات منخفضة بالمقارنة مع اعمال سابقة (يمكن رؤية هذا التراجع كانعكاس مباشر لانفجار المرفأ).

هي المرة الأولى أيضاً التي تكون فيها الموسيقى الإلكترونية عنصراً رئيساً في السرد، حيث تأخذ دور الراوي الذي يخبر القصة ويشكل صلة وصل بين أقسام المقطوعة الثلاثة. علماً أن طبيعة الموسيقى الديجيتالية ساهمت في تبريد حدة المشاعر التي ترتبط عادة بأصوات الآلات الإلكترو آكويستيكية، كأن الفرقة قررت وضع قدم في الآلة بإيقاعاتها الميكانيكية المحايدة والباردة، وقدم أخرى في الفضاء المديني العام بمشاعره وضجيجه وإيقاعاته السلطوية الآكويستيكية. 

يربط قبيسي هذا التحول، بالسياق الذي أنتجت فيه المقطوعة بعد انفجار المرفأ: "كنا كمن استفاق للتو من الثمالة، نشعر بالخوف والتعب لكننا نواجه شعوراً بالمسؤولية عما حصل بسبب تركنا الأمور تصل إلى ما وصلت إليه. لكن من ناحية أخرى كان علينا تقبّل الأمر الواقع من دون أن يعني ذلك خنوعا، لأنه الخيار الوحيد المتاح".

نستطيع إيجاد ملامح هذه المشاعر المتضاربة في بنية المقطوعة، التي يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام: الأول يذكر بخاتمة "مقدمة للرجل المنتصر"، بأبّهتها الهوليوودية وشعورها بالقوة الذاتية التي تتجاهل الإشارات إلى اقتراب الهاوية. يأتي القسم الثاني الحذر والخالي من الالحان والإيقاعات "ليفضح زيف القسم الأول وليوقظه من الثمالة، مواجها إياه بالحقيقة التي لم يكن يرغب برؤيتها" (وفق قبيسي)، علما ان هذا القسم نصل إليه بعد مقطع طويل يذكر بأصوات زمامير الإنذار التي سمعناها بشكل كثيف بعد انفجار المرفأ.

أما القسم الثالث والاخير من المقطوعة فهو محاولة أخيرة للإستدراك، عبر شحن الموسيقى بالألحان التي تعزز المستوى السردي بسبب ارتباطها أساساً بالصوت الإنساني. تحضر هنا الإيقاعات الآكويستيكية والرقمية، المتوترة حيناً والمتحمسة حيناً آخر، لتصل في النهاية إلى أقصاها حيث تصبح كأنها بداية لشيء جديد كما كان الحال مع نهاية الألبوم السابق.



increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها