السبت 2021/05/22

آخر تحديث: 12:06 (بيروت)

سمير غانم: رحيل من تشاركناه مع آبائنا

السبت 2021/05/22
سمير غانم: رحيل من تشاركناه مع آبائنا
قام سمير بإعادة إنتاج شخصيته الفنية، ثلاث أو أربع مرات
increase حجم الخط decrease
كانت تلك أول ذكريات الندم، ولعلها كانت واحدة من أول الذكريات عموماً.. كنت في السادسة من عمري، وأستعيد تفاصيل المشهد وكأنه جرى بالأمس، ممدداً على الكنبة ورأسي في حالة استرخاء في حضن والدي، وكلانا شاخص إلى شاشة التلفزيون في انتظار اللقاء التلفزيوني مع سمير غانم وأسرته. ونعست. كل ما أذكره هو شقة الفنان مفرطة التزيين، وربما كانت تلك الصور لعبة للخيال، لا الذاكرة. في الصباح التالي، سيخبرني والدي بأن سمير ظهر بواحد من أطقم ملابسه الغريبة، تلك التي تشبه البيجامات، مزركشة وبأكمام واسعة وفتحة طويلة للصدر، بهيجة ومضحكة، وكانت معه زوجته دلال عبد العزيز (يقول أبي أنها ثقيلة الدم)، وابنتاه. لكن مفاجأة اللقاء، كانت روبوتاً منزلياً قدّم المشروبات للضيوف. لا يضيع سمير فرصة لإدهاشنا بألاعيبه الكثيرة، دهشة مضحكة دائماً، وراء الكاميرا أو في الحياة اليومية، وقبل الجميع بإزالته الفواصل بين التمثيل والجد، وبأنه سيرة كوميدية واحدة ومتصلة، حياة من الارتجال الدائم. لسنوات طويلة لاحقة سأبحث بدأب عن تسجيل لهذا اللقاء مع الإنسان الآلي، لكن بلا طائل.

أنسب إلى تلك الليلة المفقودة، بداية تواطؤ بيني وبين والدي، شراكة لا تسودها المحبة بالضرورة، بل نوع من التفهم. كان سمير في فرادته ووجوهه الكثيرة، قادراً على أن يكون نجماً للأطفال، وللبالغين بالقدر نفسه. في تلك السن الصغيرة، كان، بالنسبة إلي، "فطوطة" و"سمورة"، واحتاج الأمر بعض الوقت لأدرك أنهما الشخص نفسه. كانت تلك دهشة تقنية أخرى، من صناعة فهمي عبد الحميد، مُخرج الفوازير وملك خدعها البصرية. القزم العصبي ذو البدلة الخضراء الواسعة، علامة ستبقى مع جيلين وأكثر، وستجري على ألسنتهم "فطوطة"، ككنية للتدليل أو المشاكسة، وبلا شك كعلامة فنية لنوستالجيا عصر طفولي بأكمله.

بالنسبة إلى أبي، كان هو "مسعودي"، بطل مسرحية "المتزوجون" (1979)، وكانت واحدة من مسرحياته المفضلة، ولم أفهم في البداية سر شغفه المبالغ فيها وانتظاره إعادة عرضها، عاماً بعد آخر، في إجازات الأعياد. كانت مسرحية "المتزوجون"، رغم ضحكات الجمهور التي لا تتوقف، عملاً عن التعاسة، التعاسة الزوجية لطبقة من حملة المؤهلات العليا، وجدت نفسها، في عقد الثمانينات، في مسار هبوط اجتماعي متواصل. شرائح من موظفي الدولة الصغار، مثل أبي، في فخ الفقر، وكان حلمها بالنجاة معلّقاً باللحاق بطبقة الأثرياء الكلاسيكيين بالوراثة، أو الهبوط إلى أغنياء الانفتاح الصغار من أبناء الطبقات الشعبية. وفشل معظمهم في تحقيق أي من الحلمين بالطبع.

ربما تبدو التحليلات الطبقية تلك، مفرطة في ادعائها. فسمير دائماً ما ارتبط في الأذهان بالكوميديا المسطحة، الضحك لأجل الضحك، بعفوية لا تتطلب منه جهداً، سوى إطلاق العنان لكرنفاليته التهريجية. وهذا كله صحيح. لكن، وبالتوازي مع فيض أعمال "المقاولات" التي سبح فيها متقدماً على الجميع، فإن شخصية بأبعاد طبقية بعينها ارتبطت به، وظلت تتكرر من عمل إلى آخر، بتغيرات طفيفة.

كان "حكاية ميزو" (1977)، المسلسل الذي يدين بالكثير لمؤلفه، لينين الرملي، هو الصورة الأوضح لتلك الشخصية. الشاب المستهتر الذي يسحب من رصيد مُنتهٍ من الثراء. الطبقة الوسطى العليا في مشهد تهاويها المتتابع، وأفرادها كعبء أو عالة على الآخرين. خليط التعالي مع الإفلاس، وتناقضات الشر الظريف مع الحاجة المهينة، هي سر الضحك. تتكرر تلك الصورة في سياقات مختلفة، في فيلم "يا رب ولد" (1984)، وفي المسلسل التلفزيوني"كابتن جودة" (1986)، فتأخذ أبعادا أكثر تشابكاً. يواجه مدرس الألعاب البدنية، ابن المدينة، الحياة الشحيحة، إلى حد الصدمة، في الريف. لكن هنا، ورغم تعالي الطبقة الوسطى الحضرية، المضمر والكوميدي، فإن "جودة" يتحول إلى بطل، بالصدفة بالطبع. بطولة لا تكشف سوى هشاشة طبقتها. كان أبي قد قضى أيضاً سبعة أعوام، يعتبرها ضائعة من عمره، مدرّساً للموسيقى في قرية صغيرة في صعيد مصر. وقصصه القليلة عن تلك الفترة بدت كنسخ كربونية في كوميديتها، من مسلسل "جودة"، وإن خلت من البطولات بالكامل، وربما هذا ما جعلها حقيقية.

قدم سمير أعمالاً ذات محتوى سياسي واضح، مثل مسرحية "جحا يحكم المدينة" (1985)، و"فارس وبني خيبان" (1987)، والتي يقال أن الرقابة تدخلت لإضافة حرف الواو إلى العنوان الأصلي "فارس بني خيبان". لكن، رغم ذلك، فإن كوميديا سمير كانت تصل إلى تسييسها الباطني حين لا يقصدها أحد على الإطلاق. شخصية الداندي أو الغندور، الغندور الجذاب بلا ذكورة، الغندور الأنيق والهزلي في الوقت نفسه، حتى شاربه يأتي بأثر عكسي، وغندرته تبدو طبيعية وتلقائية، لكن دائماً في غير محلها، في لحظة انزلاق أو تشبث طبقي، في صدمة لقاء الحضري مع الريفي، في تعاليها الفارغ والمسلّي. ولسبب أو لآخر، يذكرني هذا كله بأبي.

قام سمير، بإعادة إنتاج شخصيته الفنية، ثلاث أو أربع مرات على الأقل عبر تاريخه. في هذا يتفرد، ويتجاوز كل مجايليه. في مرحلته الأخيرة، وفي مسلسل "نيللي وشريهان" (2016)، من بطولة ابنتيه، دنيا وإيمي، ومشاركة صغيرة منه، لا يعيدنا العمل فقط إلى ذاكرة الفوازير الجلية في عنوانه، بل يرجعنا إلى المفارقة الطبقية نفسها، لكن مقسومة على اثنين، بين "نيللي" الثرية المفلسة، و"شريهان" بنت عمها الفقيرة. لكن رحلتهما للبحث عن الكنز الذي تركه لهما الجد، لا تُفك شفرته سوى عبر حل ألغاز مجلة "ميكي".

يترك لنا سمير وراءه كل هذا الميراث المبهج والمضحك والكرنفالي، الذي نتشاركه مع الآباء. ميراث من الفرح، ربما لو تأملناه قليلاً، وحاولنا فك ألغازه، لوجدناه أعمق مما تصورنا، أو مما يبدو على السطح.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها