الأربعاء 2021/05/19

آخر تحديث: 13:43 (بيروت)

غزة.. على جادة مصر وطرف البادية وجارُها البحر

الأربعاء 2021/05/19
increase حجم الخط decrease
منذ سنوات، تحول قطاع غزة الذي تبلغ مساحته 360 كيلومترا مربّعا إلى سجن كبير في الهواء الطلق يضم مليوني مواطن فلسطيني، وبات هذا السجن ساحة حرب مفتوحة. يقع هذا القطاع في المنطقة الجنوبية من السهل الساحلي الفلسطيني الممتد على البحر الأبيض المتوسط، ويشكل مساحة لا تتعدى 1،33 في المئة من مساحة فلسطين التاريخية، ويحمل اسم أكبر مدنه.

مثل العديد من مدن ساحل الشام، ترتفع مدينة غزة المعاصرة فوق موقع مدينة متوسطية قديمة أُنشئت منذ آلاف السنين. يرد اسم هذه المدينة في وثائق فرعونية تعود إلى القرن الخامس عشر قبل الميلاد، ويتردد بصيغته العبرية في أسفار الكتاب المقدس، ومعناه "القوية". كان الكنعانيون أول من سكنها، ولعلهم بُناتها، بحسب ما جاء في سفر التكوين: "وكانت حدود الكنعانيين من صيدون وأنت آت نحو جرار إلى غزة" (تكوين 10، 19). وفقا لهذه الرواية التوراتية، قامت غزة عند جنوب غرب بلاد الكنعانيين، ولم يدخلها العبرانيون في زمن يشوع بن نون، وكانت أبعد مدن الفلسطينيين الخمس في اتجاه الجنوب (يشوع 13، 3).

في زمن القضاة، ظلّت المدينة خارج سلطة اليهود الذين توقفوا عند مدخلها وفشلوا في اختراقها (قضاة 6، 4). وفيها، وقع شمشون الجبار في الأسر، وحطّم معبد الإله داجون على نفسه وعلى أعدائه، فـ"سقط البيت على الأقطاب وعلى كل الشعب الذي في البيت، فكان الموتى الذين قتلهم في موته أكثر من الذين قتلهم في حياته" (القضاة 16، 30). استولى اليهود على المدينة في عهد الملوك، وامتدت حدود مملكة سليمان "من تفساح إلى غزة" (1 ملوك 4، 24). تصدّعت هذه المملكة بعد موت الملك سليمان، وانتهت مع إحكام البابليين سيطرتهم على الشرق. قام نبوخذ نصر بحرق الهيكل، وأجلى آلاف اليهود "إلى بابل حيث صاروا عبيدا له ولبنيه، حتى قامت مملكة فارس" (2 إخبار 36، 20).

يتردد اسم غزة في الكتب النبوية التي تتحدث عن السبي البابلي حيث تتوالى اللعنات عليها كما على صيدون وصور. يأخذ أرميا "كأس السخط" ليسقي منها "جميع ملوك ارض فلسطين وأشقلون وغزة وعقرون وبقية اشدود"، "وجميع ملوك صور وجميع ملوك صيدون وملوك الجزائر التي في عبر البحر" (أرميا 25، 20-22). كذلك، يتهم عاموس أهل غزة بالمتاجرة بالأسرى العبرانيين وبيعهم كرقيق، ويتوعدهم بالخراب الكبير: "هكذا قال الرب، بسبب معاصي غزة الثلاث، وبسبب الأربع لا أرجع عن حكمي، لأنهم أجلوهم عن آخرهم ليسلّموا إلى أدوم، فأرسل ناراً في سور غزة فتلتهم قصورها، وأستأصل الساكن من أشدود، والقابض على الصولجان من أشقلون، وأرد يدي على عقرون، فتهلك بقية فلسطين" (عاموس 1، 6-8). في هذا السياق، يرى صفنيا "غزة مهجورة وأشقلون مقفرة" (صفنيا 2، 4). ويتحدث زكريا عن أشقلون التي تخاف، وغزة التي ترتعد، حيث "يهلك الملك من غزة وأشقلون لا تسكن" (زكريا 9، 5).

احتل ملك الفرس سيروس بابل في عام 539 قبل الميلاد، وخضعت غزة لهذا الحكم حتى القرن الرابع، وواجهت بضراوة الهجوم الذي شنّته عليها جيوش الإسكندر الكبير، وبعد حصار ضار استمر خمسة أشهر، أحكم الفاتح المقدوني قبضته على المدينة المقاومة، فهدم أسوارها ونكّل بأهلها لرفضهم الاستسلام. مثل مدن المتوسط الكبيرة، باتت غزة مركزاً كبيراً من مراكز الهلينستية الشرقية في القرون التي سبقت ظهور المسيح، وعاشت عصراً ذهبياً في زمن مملكة البطالمة المصريين، ثم انتقلت إلى حكم الدولة السلوقية التي ضمّت آسيا الصغرى والهلال الخصيب وبلاد فارس. في ظل هذه الدولة، حصل اليهود على نوع من الاستقلال الذاتي تحت حكم الأسرة المكابية. شنّ القائد اليهودي يوناتان المكابي هجوما على غزة، "فأغلق أهل غزة الأبواب في وجهه، فحاصرها وأحرق ضواحيها بالنار ونهبها، فسأل أهل غزة يوناتان الأمان، فمدّ لهم يمناه، ولكنّه أخذ أبناء رؤسائهم رهائن وأرسلهم إلى أورشليم، ثم جال في البلاد إلى دمشق" (1 مكابيين 11، 61-62).

انتهت دولة المكابيين مع خضوع اليهود للرومان الذين بسطوا سلطتهم على العالم المتوسطي. ضُمّت غزة إلى ولاية سوريا، وازدهرت ازدهاراً عظيماً، وشهدت نشوء الكنيسة، وتلقّت باكراً البشارة الجديدة، إلا أنها لم تتقبلها إلا في القرن الخامس حيث تخلّت عن آلهتها إثر اعتناق السلطة الامبراطورية للمسيحية وفرضته ديناً واحداً وحيداً. ارتبط اسم المدينة باسم عدد من كبار أعلام الكنيسة في القرون الأولى، أشهرهم برفوريوس أسقف غزة الذي أرسى دعائم المسيحية في المدينة بمساندة الامبراطورة أفدوكسيا، والقديس دوروتاوس رئيس الرهبان في غزة، صاحب الرسائل النسكية العميقة الأثر.

غزة هاشم 

فتح عمرو بن العاص غزة في عام 618، وعُرفت المدينة في العهد الاسلامي باسم غزة هاشم. نقرأ في "لسان العرب": "غزة موضع بمشارف الشام، بها قبر هاشم جد النبي، وجاء في الشعر غزّات". هاشم جد النبي، هو هاشم بن عبد مناف، ذكره ابن خلكان في "وفيات الأعيان"، وقال انه توفي في غزة من أرض الشام تاجراً، ونقل بيتاً من شعر مطرود بن كعب الخزاعي يقول: "وهاشم في ضريح وسط بلقعة/ تسفي الرياح عليه بين غزّات"، وأضاف معلّقاً: "إنما قال غزّات وهي غزة واحدة كأنه سمّى كل ناحية منها باسم البلدة وجمعها على غزّات، وصارت من ذلك الوقت تُعرف بغزة هاشم لأن قبره بها، لكنه غير ظاهر ولا يُعرف، ولقد سألت عنه لما اجتزت بها، فلم يكن عندهم منه علم".

في العهد العباسي الذهبي، تحدث ابن عبد ربّه الأندلسي عن بلاد الشام في "العقد الفريد"، وقال في تعريفه بهذه البلاد: "أول حد الشام من طريق مصر أمج (أي العريش)، ثم يليها غزة، ثم الرملة رملة فلسطين، ومدينتها العظمى فلسطين وعسقلان، وبها بيت المقدس. وفلسطين هي الشام الأولى. ثم الشام الثانية، هي الأردن، ومدينتها العظمى طبرية، وهي التي على شاطئ البحيرة، والغور واليرموك، وبيسان فيما بين فلسطين والأردن. ثم الشام الثالثة الغوطة، ومدينتها العظمى دمشق، ومن سواحلها طرابلس. ثم الشام الرابعة وهي أرض حمص. ثم الشام الخامسة وهي قنسرين، ومدينتها العظمى حلب".

عانت المدينة غزوات البدو المتكررة في العقود الأخيرة من القرن الثامن، وخضعت للفاطميين في القرن العاشر، ثم فقدت مجدها القديم، وعندما احتلها الصليبيون في مطلع القرن الثاني عشر وجدوها خربة. قاست المدينة من الحروب المتواصلة بين الفرنجة والأيوبيين، وكان تحريرها على يد صلاح الدين الأيوبي الذي وضع همته في غزو الفرنج، "فكان من أمره معهم ما ضاقت به التواريخ، واسترد منهم ما كانوا استولوا عليه من بلاد الإسلام بالشام، وأجلى ما بين الشام ومصر من الفرنج"، كما كتب السيوطي في "حسن المحاضرة".

لم تنه هذه الفتوحات الحرب الدائرة بين الأيوبيين والفرنجة. عقد الفريقان اتفاقاً استعاد الصليبيون بموجبه السلطة على الكثير من المواقع التي فقدوها، ولم يكن هذا الاتفاق سوى هدنة فرضها ميزان القوى المتقاتلة. شكّل الزحف المغولي زلزالاً أعاد رسم خريطة العالم الإسلامي، وعند حدود غزة صدّ المماليك زحف هولاكو نحو المشرق العربي. في "نهاية الأرب"، سجّل النويري فصول المعركة التي دارت بين العسكر المصري وعساكر الفرنج في "مكان يُقال له أربيا، بين غزة وعسقلان"، ونقل عن أحد الشهود قوله: "كنت يوم ذاك بالقدس، فتوجهت في اليوم الثاني من الكسرة إلى غزة، فوجدت الناس يعدون القتلى بالقصب، فقالوا إنهم يزيدون على ثلاثين ألفا". وفي "صبح الأعشى"، نقل القلقشندي نسخة مكاتبة الإخبار بفتح غزة واقتلاعها من الفرنج، وجاء في نص هذه المكاتبة: "وهذه المدينة قد علم الله أنها من أوسع المدائن، وأملإ الكنائن، وأثرى المعادن. وما كانت الأبصار إليها تطمح، ولا الأقدار بها قبلنا تسمح. ولها قلعة أنفها شامخ في الهواء، وعطفها جامح عن عطفة اللواء، قد أوغلت في الجو مرتفعة، وأومضت في الليل ملتعمة، وبرداء السحاب ملتفعة، قد صافحتها أيدي الأنام بالسلامة من قوراعها".

قامت غزة القديمة عند التقاء قارتَي آسيا وإفريقيا، وربطت فلسطين بمصر. وظلت غزة هاشم مدينة تربط مصر بالشام، كما ارتبط اسمها باسم عسقلان، وكأنّ المدينتين توأمان. هي بحسب تعريف شمس الدين المقدسي في "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم": "غزة، كبيرة على جادة مصر وطرف البادية وقرب البحر، بها جامع حسن، وفيها أثر عمر بن الخطاب ومولد الشافعي وقبر هاشم بن عبد مناف". وهي بحسب تعريف ياقوت الحموي في "معجم البلدان": "مدينة في أقصى الشام من ناحية مصر، بينها وبين عسقلان فرسخان أو أقل، وهي من نواحي فلسطين غربي عسقلان". وهي بحسب تعريف ابن بطوطة في "تحفة النظار": "أول بلاد الشام مما يلي مصر، متّسقة الأقطار كثيرة العمارة حسنة الأسواق، بها المساجد العديدة والأسوار عليها، وكان بها جامع حسن، والمسجد الذي تقام الآن صلاة الجمعة فيها بناه الأمير المعظم الجاولي، وهو أنيق البناء، محكم الصنعة، ومنبره من الرخام الأبيض".

ازدهرت غزة في عهد المماليك، وعمرت في عهد الأمير علم الدين سنجر الجاولي الذي حكمها في زمن الملك الناصر محمد بن قلاوون، ثم انتقلت إلى سلطة العثمانيين في القرن السادس عشر. أنشأ الحكام الجدد أربعا وعشرين ولاية في الشرق الأوسط، منها ولاية غزة وولاية القدس، وباتت فلسطين بحسب هذا التقسيم متّصلة بالدولة العثمانية من خلال هاتين الولايتين. في زمن أفول الخلافة، أنشئت متصرفية القدس الشريف في 1874، وتألفت من أقضية القدس ويافا والخليل وغزة. كما أنشئت ولاية شمال القدس، وتألفت من لواءين، وهما لواء نابلس ولواء عكا.

دخلت هذه البلاد تحت مظلة الانتداب البريطاني في 1920، وخلال ثلاث سنوات، صدرت الطوابع الفلسطينية الأولى، وحملت اسم فلسطين باللغات الثلاث. على هذه الطوابع، أُضيف حرفَا "ألف يود" بعد كلمة فلسطين بالعبرية، ومثّلت هذه الإضافة صيغة مختزلة لكلمتي "ايرتس يسرائيل"، أي "أرض إسرائيل". أعلنت الأمم المتحدة مشروع تقسيم فلسطين في تشرين الثاني 1947، وكانت غزة ضمن مدن جنوب الساحل الفلسطيني الموعودة للدولة العربية الفلسطينية. بعدها، أُعلن قيام دولة إسرائيل في 14 أيار 1948، وتوجهت خمسة جيوش عربية لمساندة الفلسطينيين في حربهم على هذه الدولة الطارئة، وكانت النكبة. سيطر الكيان الصهيوني على ثمانية وسبعين في المئة من أرض فلسطين، وبات قطاع غزة تابعاً لمصر، بينما ربطت مناطق الضفة بالدولة الأردنية. توسعت إسرائيل في حرب 1967، وشكّل قطاع غزة مع الضفة الغربية الجزء الفلسطيني من الأراضي التي احتلّتها في تلك الحرب. 


بقيت غزة تحت توقيع معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية في 1982، وانخرطت في الانتفاضة الفلسطينية الأولى بعد خمس سنوات. وفي 1994، انسحبت القوات الإسرائيلية من مدينة غزة ومن القطاع بشكل جزئي بعد توقيع معاهدة أوسلو، ثم انسحبت بشكل كلي من القطاع في 2005، وأبقت حصارها برًا وبحرًا وجوًا. سيطرت حركة "حماس" على كامل القطاع في 2007، وشنت إسرائيل حربا على هذا القطاع في نهاية صيف 2008، وفرضت حصارا شاملا عليه. تجددت هذه الحرب في السنوات التالية، وتشكل الحرب التي نشهدها اليوم فصلاً جديداً من فصولها.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها