الأربعاء 2021/05/19

آخر تحديث: 12:50 (بيروت)

خَلَصْ!

الأربعاء 2021/05/19
خَلَصْ!
غزة إطلاق صواريخ (Getty)
increase حجم الخط decrease
سمعتها واضحة، من دون لبس، وراجعت المقطع المصور القصير، مرات عبر هاتفي المحمول، ثم مرات في مواقع إخبارية عديدة، تحت هذا العنوان: "خلاص يا حماس.. إسرائيليون يترجون المقاومة الفلسطينية بالتوقف عن قصفهم". ظننت في البداية أن دافعي من وراء التكرار هو التيقن من صحة الواقعة، لكني تبينت، مع المعاودة، أني راغب في الوصول إلى مصدر الصدى، فالكلمة منذ سمعتها أشعرتني أنها صدى لكلمة "قديمة" نسبياً، أو تعبير عن مشاعر قارة.
هجست أن "خَلَصْ" الأولى كانت قاسية، فوقعها مرّ، وطوال أسبوع ظلت تلاحقني، والآن أتتبع المصدر واستقرئه.
خمنت أنها موجودة في "الحب في المنفى"، أو في "رأيت رام الله".

ما جعلني أبحث في رواية بهاء طاهر، الصادرة عن سلسلة "روايات الهلال"، في القاهرة، عام 1995، هذه الجملة المحفورة في ذاكرتي: "لكن كل شيء تغير بعد ما حدث في لبنان"، لأن ما يحدث في فلسطين، الآن، سيغير كل شيء؛ بلا أدنى شك، لكنه تغيير في الاتجاه المضاد.

بهاء طاهر في "الحب في المنفى" كان يعبّر عما حدث في ذلك الصباح من يونيو/حزيران 1982، والراوي ينتظر "شيئاً آخر يغير ذلك الهوان.. لكن لا شيء".

أتذكر وقع هذا المشهد من الاجتياح الإسرائيلي للبنان: "يطاردني جنود إسرائيل وهم يسوقون بكعوب البنادق شباباً معصوبي العيون وأيديهم مقيدة خلف ظهورهم. لكني أقول لنفسي غداً في الصباح سيتغير كل شيء. لا يمكن أن يستمر هذا. إن كانت إسرائيل قد فعلت ذلك لأن سفيراً، فرداً، قد أصيب، فلا بد أن بركاناً من الغضب سينفجر عندنا ونحن نرى ونسمع عن مئات يموتون  كل يوم.. لا يمكن أن تكون النخوة قد ضاعت إلى الأبد. هي دماء على كل حال تلك التي تجرى في عروقنا وليست جليداً وسينفجر الغضب قبل الصباح!".


ولم يحدث شيء. هناك هوان، لكن لا "خَلَصْ" في الحب في المنفي.
إنها موجودة مرات في "رأيت رام الله"، الصادرة أيضاً عن "الهلال"، بعد عامين من رواية بهاء طاهر.
ربع قرن، تقريباً، بين خَلَصْ مريد البرغوثي وخلاص الإسرائيلي، التي سيتغير معها كل شيء.

أقام البرغوثي في "رأيت رام الله"، كما كتب عبد المنعم تليمة، "بنية ضمت باقتدار جمالي معجب عناصر السيرة الذاتية وعناصر القص". والكتاب، أيضاً، كما أشار إدوارد سعيد؛ في تقديمه للطبعة الرابعة (2011)، "سجلّ للخسارة في ذروة العودة ولمّ الشمل"، وهو تعبير عن "مقاومة البرغوثي المستمرة لأسباب خساراته وتفنيدها".

يعود البرغوثي إلى بيته في رام الله بعد غياب دام ثلاثين عاماً. فقد سمحت- كما يكتب سعيد- ما يُطلق عليه بشكل مضلّل عملية السلام (هذه التسمية الخاطئة بشكل مخيف) بين منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات، ودولة إسرائيل.. بعودة بعض الفلسطينيين من أهالي المناطق المحتلة العام 1967 إلى منازلهم.

في تداعيات العودة، يكتب البرغوثي "خَلَصْ" مرات، وهي تعبّر عن تعقيدات معضلة "سلام أوسلو" وآفاقه التراجيدية. أنسخ هنا مرتين منها: "خَلَصْ. انتهى الأمر. الاحتلال الطويل الذي خلق أجيالاً إسرائيلية ولدت في إسرائيل ولا تعرف لها "وطناً" سواها، خلق في الوقت نفسه أجيالاً من "الفلسطينيين الغرباء عن فلسطين" ولدتْ في المنفى ولا تعرف من وطنها إلا قصته وأخباره... خَلَصْ! الإحتلال الطويل خلق منا أجيالاً عليها أن تحب الحبيب المجهول. النائي. العسير. المحاط بالحراسة، وبالأسوار، وبالرؤوس النووية، وبالرعب الأملس".

هذا الصوت الأولي المنطبع في الذاكرة منذ قرأت الكتاب، وكتبت عنه، فور صدوره، وقد شوشته الأيام، مع أنه بقيت منه مرارة هذه الكلمات: "الإحتلال الطويل استطاع أن يحولنا من  أبناء فلسطين إلى أبناء فكرة فلسطين".

في الفصل المعنون "غُربات"، يسرد البرغوثي واقعة حدثت ذات صيف عند نقطة الحدود بين فرنسا وسويسرا. كان مريد وزوجته رضوى عاشور وابنهما تميم، في ضيافة أخيه منيف المقيم في فرنسا: "في ذلك الصيف لم نكن وحدنا ضيوفاً عند منيف بل اجتمع عنده أيضاً أقرباء زوجته وأولادهم، واثنتان من شقيقاتها. تقدّم الشرطي وطلب جوازات السفر. جمعناها وقدمناها له فرأى العجب العجاب. وجد بين يديه جوازات سفر من كل حدب وصوب: أردنية وسورية وأميركية وجزائرية وبريطانية ومن "دولة بيليز" أيضاً، وبأسماء تدل على أن أصحابها من عائلة واحدة؛ فالكل "برغوثي"، بالإضافة إلى جواز سفر رضوى المصري وجواز سفر إميل حبيبي الإسرائيلي... الرجل طلب أن يشرح له أحدنا هذا الكوكتيل من وثائق السفر، كان الشرطي الفرنسي مندهشاً، وكان تعليق أحد رفاق الرحلة صادماً بقدر ما حمل من سخرية ساحرة من الذات: والله احنا فضيحة عن جد يا جماعة!".

هذه الواقعة وتلك الصياغة كان أكثر ما لفت نظري إلى معنى كلمة غربة، والآن يتبين لي نفاذية لغة البرغوثي المتخلصة من كل حمل رومانسي.

في واقعة نقطة الحدود بين فرنسا وسويسرا، تلك، كان إميل حبيبي، وقتها، آتياً من الناصرة ليشارك في ندوة عن القضية الفلسسطينية في جنيف، فدعاه مريد إلى بيت منيف، وفي سياق "خَلَصْ- خلاص" هذا، سيكون استحضار بضع كلمات لحبيبي عن غربة الفلسطيني، كشفاً لعمق خلاص الإسرائيلية. ففي "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل"، يصف هزيمة 1948 (النكبة) بأنها "النحس الأول"، الذي تبعثر بعده الفلسطينيون "واستوطنوا جميع بلاد العرب التي لم يجر احتلالها، فلي ذوو قربى يعملون في بلاط آل رابع في ديوان الترجمة من الفارسية وإليها، وواحد تخصص في إشعال السجائر لعاهل آخر، وكان منا نقيب في سوريا، ومهيب في العراق، وعماد في لبنان". وفي "سراج الغولة"، يقول على لسان الباقين في الوطن: "إننا نفضل رأس خازرق فوق تراب الوطن على رحاب الغربة كلها". وفي "المتشائل" يكتب: "أؤمن بأن هذا الشعب لا يفنى". وفيها أيضاً يكتب: "أوقعتني الشجاعة في مأزق لم أنج منه إلا بمزيد من هذه الشجاعة".

خلاص الإسرائيلية نقطة تحول مفصلية في الواقع وفي الوعي. يكتب البرغوثي: "لم أكن ذات يوم مغرماً بالجدال النظري حول من له الحق في فلسطين. فنحن لم نخسر فلسطين في مباراة للمنطق! لقد خسرناها بالإكراه وبالقوة". اليوم يجسّر الفلسطيني، في كل مكان، المسافة بين الجدل والقوة، بين الوطن والمنافي.

تعيدني خلاص الإسرائيلية إلى خَلَصْ البرغوثي، وتكشف لي بجلاء؛ لم أُقاربه من قبل، أن أي افتنان بقدرة الأدب على التعبير عن الواقع، الشخصي والعام، واستشراف المستقبل، لا يجب أن يحجب اللحظات الاستثنائية، وإن كانت في قبضة الخيال.

ويبدو أن الخيال يشهر تحديه الصارخ، فالبرغوثي إذ كتب أن "القدس الآن هي قدس اللاهوت!! العالم معني بـ"وضع" القدس، بفكرتها وأسطورتها، أما حياتنا وقدس حياتنا فلا تعنيه، إن قدس السماء ستحيا دائماً، أما حياتنا فيها فمهددة بالزوال"، يتحرك الفلسطيني، الآن، ليمحو ذكرى الكثير من الهوان، ليمحو كل خَلَصْ قيلت؛ وكانت مشروطة بوقتها وظلاله، والأجمل أنه يسعى للمستحيل: لرتق ما بين السماء والأرض.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها