الإثنين 2021/05/17

آخر تحديث: 13:08 (بيروت)

عناية جابر.. ضاعت في بيروت

الإثنين 2021/05/17
عناية جابر.. ضاعت في بيروت
increase حجم الخط decrease
حين قرأت السطر الأول من عشرة أسطر كتبها الشاعر والمسرحي يحيى جابر، في رثاء الشاعرة والصحافية عناية جابر، توقفت هناك، وأخذتني رغبة بأن أقفز عن بقية الأسطر. ومثل الحصان الذي يرد الماء ويكتشف أنه عكر فيعف ويرجع إلى الوراء، نكصت يراودني خاطر مكسور وإلحاح لإكمال القراءة التي شعرت أنها تعنيني في مكان ما. وحين وقعت عيني على نعي عناية جابر، ترددت أسئلة عديدة في الذهن: هل عناية قريبة يحيى؟ ام يتشاركان في الكنية مصادفة. وإذا لم يكن الأمر كذلك، لماذا كان يحيى أول من نعاها بعدما بقيت ميتة في بيتها ليومين ولم يكتشف أحد ذلك في بيروت؟

طالما رحلت عناية فجأة ومن دون سابق إنذار، أين كانت طيلة هذه المدة؟ لم أسمع عنها منذ حوالى خمس سنوات، منذ كتابها "لا أحد يضيع في بيروت". وكان آخر لقاء لي بها في ربيع 2011 حين تقابلنا على طلعة صحيفة "السفير" حيث كانت تعمل، ودار بيننا حوار سريع من رصيف إلى آخر. سألتني عن سر الفرح في ملامحي، فقلت لها ربما دفء شمس الربيع.. ربما لون بحر بيروت.. وربما قميصك الأبيض الذي يليق بكل الأيام يا صاحبة القلب الأبيض.

وضحكنا ولم نتقابل بعد ذلك النهار الذي استعيد منه هذه اللحظة، وأشعر بالذنب لأني لم افكر بها طيلة هذه السنوات، وهي كانت عزيزة علي. تربطني بها صداقة بعيدة، بدأت حين كتبت مراجعة لديواني الأول في صحيفة "السفير"، وظننت حينها أن الاسم من الأسماء الفنية لأنها لم تكن معروفة كشاعرة وصحافية بعد، ثم إن بنية الاسم تفتح باب التأويل على أنه اسم مركب عن سابق إصرار لقصد ما.

تلك الصداقة لم تكن تستيقظ إلا حين نلتقي، وتتحول إلى مودة تحمل في تفاصيلها كل عفوية الطفولة وعذوبتها. ولم يخطر في البال أن أجد نفسي ذات يوم متورطاً في رثاء هذه الشاعرة التي كانت تكتب وكأنها تفكك أيامها وعزلتها في ركن صغير من العالم. هي دائماً في الزاوية، ولا يمكن للمرء أن يصل اليها إلا بعد المرور بمنعرجات، وهكذا كان الطريق إلى بيتها الصغير في الدائرة 15 في باريس، حين اشترته ودعتني لزيارتها، فلم أجد هناك سوى غلاية قهوة ومنفضة سجائر ودفتر للكتابة. هذا هو بيتي الباريسي، وأطلقت ضحكة عالية.

تكفيني السجائر والقهوة والأقلام. استطيع أن اكتب من دون انقطاع. القهوة والسيجارة تطردان التشويش وتصفيان الذهن، وأنا ذهني صاف على طول لأني ولدت طفلة كبيرة ولم أكبر بعد، ولن اسمح للحياة أن تأخذ مني هذا الرصيد الخاص بي، ليذهب الموت يلعب بعيداً مني ويتركني وحيدة هنا، وأرجو أن لا يتذكرني.

كانت تريد أن تعيش في باريس، وقد وعدها مرسيل خليفة بتدبير عمل. وجدتها فرحة جداً لذلك، وتريد أن ترقص وتغني لأنها وجدت مكاناً تستقر فيه بعيداً من بيروت، تدخن وتحتسي القهوة وتكتب. وفي تلك الليلة التي سهرنا فيها في مقهى باريسي قرب بيتها، غنت أغاني عراقية حزينة. المطربة العراقية سليمة مراد، كانت تسكن عناية، وتضرب على كل وتر من أوتار قلبها الطفولي الهش. لم تحصل على العمل في باريس، فرجعت إلى زاويتها في صحيفة "السفير" بين عباس بيضون واسكندر حبش وأحمد بزون ونديم جرجورة. تعمل بصمت كأنها وحدها. لا تكترث. تأتي وحيدة وتغادر وحيدة.

كنت أتصل بها أحياناً في الصباح الباكر فأجدها على شاطئ البحر قرب المنارة. ماذا تفعلين يا عناية، أسمع حولك صوت البحر؟.. لا شيء، أغني للموجة الراحلة.

فجأة تموت صديقة، وتكتشف أنك نسيتها وأنها عزيزة ويوجعك موتها، وتقع في عقدة ذنب وتغامر برثائها، لكنك في الحقيقة تعزي نفسك وسط هذا السواد الذي يغطي الحياة، بعدما رحل كثيرون ممن نعرفهم، بعضهم قريب جداً منا، وبعض آخر لم يكن بعيداً. والألم هنا لا يتجزأ ولا يمكن تقسيطه بين هؤلاء وأولئك. إنه يشتعل مثل زيت القطران وهو يروي الفتيلة في قنديل بدائي.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها