الأحد 2021/05/16

آخر تحديث: 10:10 (بيروت)

نحو تدمير الفكر

الأحد 2021/05/16
نحو تدمير الفكر
increase حجم الخط decrease
ثمة شيء لا بد من التنبه اليه في حملة التضامن مع الشعب الفلسطيني الآن، وهي أن المنخرطين فيها قد شعروا بكونهم مضطرين بدايةً الى شرح قضيتهم. بالتالي، أبدى شعورهم بذلك أن هذه القضية هي، ولكثرة، قضية مستجدة، بحيث لم يعرفوا بها من قبل. فبعد عقود على اعمال التهجير والقصف وارتكاب المجازر، التي مارسها المحتل الصهيوني بحق ذاك الشعب، وبعد عقود من إبراز هذا الشعب لهذه الاعمال، وتقديمها، وروايتها، عالمياً بطرق مختلفة، لا يزال هناك من يستفهم منه أن يشرح له ماذا يحدث "معه"، ومن يقاوم، ومرد مواجهته له، كما لو أنه قد "سمع" بـ"قصته" للتو، فقرر أن يزيد من علمه بها.
بالتأكيد، يمكن الاعتراض بالقول إن هناك من لم "يسمع" بهذه "القصة" أو تلك، وبالتالي، من الضروري، وحين يستفهم، أن يجد جواباً، يجعله على مقربة منها من باب دفعه الى التضامن معها. ولكن، المسألة، هنا، لا تتعلق بالإخبار عن القضية، ولو حتى كـ"قصة"، أم لا، بل هي تتعلق بالطرف الذي وجد المنخرطون هؤلاء أنفسهم ملزمين بالشرح له. هذا الطرف هو من الأوساط النشاطية، التي يحمل كل وسط منها فكراً، كان قد ولد وتبلور كتفكير في سياقات ثورية متعددة، قبل أن يتعرض لمحاولات التوقيف داخلها، أو لمحاولات حبس روحه في مؤسساتها. بالتالي، هذه الأوساط تطلب شرح القضية الفلسطينية لها، وهذا، مع أن هذه القضية تشكل ركيزة من ركائز التاريخ الحديث، أكان المتعلق بالاضطهاد، أو بالنضال ضده، وفي النتيجة، نافل أن تكون على بينة منه. الا أن كل وسط من تلك الأوساط، وحين يطلب الشرح له، فيدفع الى فعل ذلك بطريقة معينة: بجعل هذه القضية على ارتباط به بمعنى التفتيش فيها عما قد يتصل بفكره، أو تحويلها الى تنفيذ لهذا الفكر. على هذا النحو كان لا مناص، وعلى سبيل المثال لا الحصر، من شرح القضية لوسط الفكر "الديكولونيالي" من باب أنها تخص فكره، كما كان لا مناص من شرحها لوسط الفكر الايكولوجي من الباب نفسه... فكل وسط، يجب شرح القضية له بالانطلاق من الفكر الذي يحمله، أما، في حال لم يحصل ذلك، فسيجدها مبهمة، ولا يقدر على فك شيفرتها.


هذا ما يحث على الاستفهام أولياً حول موضع الفكر الذي يحمله أي وسط من تلك الأوسط. بالطبع، موضعه يتعلق بتوقيفه كتفكير، بسيروراته وتجاربه وتحولاته ولقاءاته، في نظامٍ، يضبطه، محولاً إياه الى فكر، غير أنه، وبالتوازي مع ذلك، يتعلق بوظيفته في الوسط الذي يحمله. فعلياً، هو لا "يحمله" الا اذا كان معنى الحمل هنا يساوي الإثقال، أي أن الفكر، وكحمل، يثقله، فلا يمكنه عندها من التحرك. ولكن، حين لا يكون الحمل على ذلك المعنى، فيصير القول إن الوسط يحمل فكراً بلا دقة، بحيث أنه لا يحمله، بل يرفعه أمامه كجدارٍ، وبالتالي، وعند وجوده خلفه، يكون ذلك على سبيل الاختباء. الاختباء من ماذا؟ بحسب ما أبداه شرح القضية الفلسطينية، الفكر-الجدار هو ليس سوى فكر-مرآة، بحيث لا يجب أن تعكس للوسط الذي يختبئ خلفه سوى صورته، أي لا يجب أن تعكس له أي شيء مغاير له بما هو هذه الصورة. بالتالي، هو يختبئ من هذا المغاير، الذي، وبدل أن يتحرك نحوه، يتجمد خلف فكره حياله، دافعاً الى عرضه عليه بالاستناد الى كونه مماثلا له، أو بالأحرى تطبيق له. المغاير، وحين يصل الى الفكر-الجدار، الذي يختبئ الوسط وراءه، لا بد أن يندمج فيه كمرآة، أن ينعرض عليها_الفكر-المرآة هو فكر-شاشة أيضاً_ كما لو أنه من صورته تلك، ولكن، في حال لم يفعل ذلك، فسيكون بمثابة مهدد له.


يمكن الاشارة إلى كون المغاير في هذه الجهة ليس سوى التحرك نفسه الذي يقع، وعلى أساس معادلة برغسونية بسيطة على ما أذكر، بعد التفكير الذي يسبقه التأثر: تأثر، تفكير، تحرك. ولكن، مع وضع الفكر-الجدار مكان التفكير، لا يعود يؤدي إلى التحرك إنما هو يريد من التحرك أن يغدو منه، اي ان يهمد فيه. على طريقة رانسيير: يريد الفكر-الجدار، وخلفه وسطه، أن يجعل من كل كد (agir) كَلْ (pâtir)، ونتيجة ذلك، يبغي القضاء عليه.
انها المعادلة التالية: الفكر ضد التحرك، وبهذا، من أجل استمرار الثاني قد يكون لازماً تدمير الأول، لا سيما أن هذا التدمير قد يكون سبيلاً إلى اطلاق وولادة التفكير من جديد، بما هو عبور للجدار والمرآة والشاشة، عبور لأغراض الفكر المتنرجس ووسطه.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها