في سياق الاحتفاء بذكرى انتخاب فرنسوا ميتران رئيساً للجمهورية الفرنسية، استعاد راديو "فرانس كولتور" عدداً من المقابلات التي سجلها كل من ميشيل بوتول ومهدي الحاج، بين مارغريت دوراس، وميتران، بين العامين 1985 و1986، والتي تبرز تاريخ صداقتهما المتينة. تعود هذه الصداقة بينهما الى أيام المقاومة، التي كانت دوراس قد قدمت بعض مقالبها في كتابها "الألم"، حيث روت كيف أقدم ميتران –وحملت شخصيته اسم مورلان- على إنقاذ زوجها روبير آنتلم.
هنا، ترجمة بتصرف لبداية الجزء الأول من حوارهما، الذي يدور حول الموت، ويرجع خلاله ميتران الى كيفية إنقاذه لآنتلم في معسكر من المعسكرات النازية.
مارغريت دوراس: حين أتذكر كيف كنت خلال الحرب، خلال هذه المرحلة من حياتنا، يوم كنا شباباً، أراك على فزع عميق ودائم من الموت، وفي الوقت نفسه، كنت جريئاً بطريقة مستمرة. كنت تتسم بشجاعة قلّ نظيرك فيها- أعتذر عن بوحي هذا الذي لم أقدم عليه من قبل حيالك. كانت شجاعتك عقلانية، منطقية، ومجنونة. كما لو أن مصارعة خوفك من الموت بأعمال شبه انتحارية، كانت بمثابة عشق حقيقي للحياة. غالباً ما أفكر في مرحلة مكتب البريد في شارع دوبان.
فرنسوا ميتران: هل نتحدث هنا عن الخوف؟ تربيتي، أو ربما طبعي جعل مني فيلسوفاً. لكن الخشية التي تدور حول الظاهرة التي تسمى الموت، وحول ما بعد تحلل الجسد، لم أتخطّها. لا شك أن الموت مشكلة من مشكلات عمر الشباب. فقد كنت على محك الموت باكراً، إذ إنني أنتمى الى جيلٍ، تعرفينه جيداً، جيل شارك في الحرب خلال عشريناته. فقد كان من الضروري العيش مع الموت.
أتذكر مرة أمام فردان -فردان الأربعينات، وليس فردان 1916، وفي الحالتين، فردان الذي لا يزوره كثيرون- وقع العدوان الألماني، إذ جاءت كتائب المشاة بأسلحتها، وقد كنا هنا في مقابلها، حيث يسير كل منا بثلاثين كيلو على الظهر، لم يكن في مقدورنا أن نركض وقد حملنا بنادق ثقيلة أيضاً. الفرق بيننا وبينهم كان لا يعقل. حصل العدوان الألماني وأيقظني- أريد أن أقول أنني في تلك اللحظة كنت رقيباً، أعمل في الميدان، لكن ليس كعسكري، بقيت في باريس. كان المؤهل حاضر هنا بشجاعة- حصل ذلك من كل الجهات، بين الرصاص، وبين الانفجارات. ذهبت اليه، يدعى الرابط، بحيث من مسؤولياته الحديث مع القطع القريبة. كنت واياه كما الآن معك. وفجأة، انهار، مات. لم نفكر في أي لحظة قبل ذلك بأن الموت قد يقع هكذا، كأننا، وحين نكون شباباً، لا نعتقد بذلك.
دوراس: أين حصل ذلك؟
ميتران: مقابل فردان. ما كنا نسميه خلال الحرب بناحية 304. كنا هناك في حفر أحدثتها الحرب الأولى، حيث لا ينبت شيء. الآن، عاد النبات اليها، من وقت الى ثان، أزور هذه الحفر، التي أعتقد أنها تحوي عظاماً تحت ترابها، عظام ترجع الى حرب 1914-1918.
دوراس: أعتقد أن الخوف من الموت هو مشكلة باطلة. وهذا، لأنك تتخيله بالانطلاق من الحياة. حين تخوض تجارب من قبيل تجارب الاختفاءات القاسية، كما في حالة الكوما مثلاً، لا تحتفظ بأي شيء من هذا الخوف الساذج، الخوف القديم، من الموت... في اعتقادي، حين نموت، لن تكون لدينا قدرة أو وقت لنتذكر كم كنا على غير حق حين شعرنا بالخوف من الموت.
ميتران: لقد قرأت قبل خمسة عشر يوماً، كتاباً صغيراً، صدر عن "سوي"، ويحوي ترجمة ليوميات فتاة يهودية هولندية، إيتي هيليزوم. كتبت هذه اليوميات حين أخذت الى أوشفيتز -ماتت بعد ثلاثة أشهر من توقيفها. كتاب مفاجئ فعلاً. تقول: "الوجع الحقيقي هو الوجع الذي نخشاه". ومع ذلك، كان الوجع هذا أقل من الوجع الذي عرفته، قبل أن تتخطاه. إنه كتاب مفاجئ بقوته الأدبية، بفرح الحياة فيه... في المواقف السيئة، تقول: "لا أزال أجد أن الحياة امتياز مدهش... لا يمكنني أن أمشي على الرصيف، أصدقائي اعتقلوا، أبي وأمي صارا ما صارا عليه... وها أنا أرى وردة جيرانيوم على النافذة، هذا يكفيني كل النهار". وقد كتبت ذلك من دون مبالغة، بحيث لم تعرف أن ما كتبته سيجد طريقه الى النشر.
دوراس: أفكر في صديق مشترك، روبير آنتلم (زوج دوراس السابق)، ما زال على قيد الحياة، على قيد الذكاء، لكن ذاكرته، الجزء المتعلق بالراهن منها، دُمّر.
ميتران: حين ذهبت لزيارته المرة الأولى، ابتسم حين رآني. في لحظة رؤيتي له، لم يكن قادراً على التكلم بعد... كان يقول كلمات قليلة. بدأت بالتحدث معه حول كل شيء، حول أي شيء -تعرفين اللعبة في هكذا حالات، أي لعبة الحديث كما لو أننا في موقف عادي. كان يستمع الي، وإن نظرنا الى فمه يمكن الانتباه الى أن ذلك يسليه. لكن، هل كان حاضراً؟ هل كان يستطيع أن يدرج الأشياء التي أتحدث معه عنها في زمنها ومكانها؟ لا أعتقد.
دوراس: كان قد قال لزوجته، مونيك، أنك أتيت لرؤيته.
ميتران: كان يتذكر إذاً.
دوراس: لا، إنتظر. فقد سألته: "هل تتذكر من هو رئيس الجمهورية في فرنسا؟". أجابها "لا". ردت عليه، "إنه فرنسوا ميتران". فغضب قائلاً "لا لا، هذا الشخص ليس رئيس الجمهورية"، فردت "أقسم لك أنه رئيس الجمهورية". سلّم لاحقاً بالأمر، لكن هل تعتقد أنه صدق ذلك...
ميتران: انه حدث انتظره خمسة عشر عاماً، انتظر بطريقة درامية.
في كتابك "الألم"، وجدت أثر كل هذه الأحداث التي عشناها، التي نسجت من لقاءات رائعة. ومن المدهش أن الأشياء دارت حول مجموعتنا الصغيرة، ثم كل الارتدادات التي شهدنا عليها نحن الإثنان. لاحقاً، وجدت نفسي هناك، في داشو لتحرير معسكر الاعتقال، كان المشهد جنونياً، حيث الموتى والمحتضرون متروكون.
دوراس: مكان الموتى.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها