الثلاثاء 2021/05/11

آخر تحديث: 12:06 (بيروت)

"المدن" تنشر مقدمة "لبنان بين الأمس والغد" لنواف سلام

الثلاثاء 2021/05/11
"المدن" تنشر مقدمة "لبنان بين الأمس والغد" لنواف سلام
حان الوقت لإصلاح عمل القضاء ولإعادة النظر في دور المحاكم الخاصة والاستثنائية واختصاصها (غيتي)
increase حجم الخط decrease
صدر حديثاً، بالعربية والفرنسية، كتاب "لبنان بين الأمس والغد" للدبلوماسي والأستاذ الجامعي اللبناني، نواف سلام، الذي يشغل حالياً منصب قاضٍ في محكمة العدل الدولية في لاهاي. وننشر هنا مقدمة الكتاب الصادر عن دار "شرق الكتاب" في بيروت، وبات متوافراً في المكتبات.

مدخل
تتمثّل مأساة اللبنانيين في أنّ مواطنيّتهم مقيّدة ودولتهم غير مكتملة، وهي مأساةٌ تتخطّى انتماءاتهم الطائفية أو السياسية، وتعرّجات التاريخ، وما حملت في طيّاتها من عنف ودماء.

إنّ صلة المواطن بالدولة في لبنان لم تكن يومًا مباشرة، بل كان عليها أن تمرّ دومًا عبر العلاقات المتشعبة التي تربط الطوائف بالنظام السياسي. لذلك لم يتمكن الفرد من تحقيق ذاته كمواطن بالمعنى الكامل، كما أنّ الأرجحية السياسية للجماعات الطائفية لا تزال تمنع قيام دولة فعلية بما يفترضه ذلك من قدرة على بسط سيادتها في الداخل كما في الخارج.

هذه الإشكالية المؤلمة هي ما يجمع بين فصول هذا الكتاب التي كُتِبت في الأصل كأبحاثٍ مستقلة وفي فتراتٍ مختلفة امتدّت على أكثر من ربع قرن.

من أجل جمهورية ثالثة
يمرّ لبنان اليوم في إحدى أخطر مراحل تاريخه المعاصر، وهذا ما يتطلّب التصدي للجذور العميقة للأزمة المالية والاقتصادية التي يعاني منها، ووضع برنامج متكامل لبناء اقتصاد حديث ومنتج؛ اقتصاد يرتكز على تحفيز نموٍّ شامل ومستدام وعلى تأمين فرص العمل من خلال تطوير الزراعات التنافسية والصناعات المستندة الى التكنولوجيات الجديدة وتكبير الاقتصاد الأخضر. وهذا يتطلب ايضاً تعزيز شبكات الأمان الاجتماعي ووضع نظام ضريبي جديد أكثر فعالية وانصافًا.

غير أن الشرط الأساس لتحقيق ذلك هو قيام دولة قادرة وعادلة، ذات إدارة شفافة وفاعلة؛ دولة تؤمّن صحة تمثيل المواطنين وتوفر شروط المساءلة والمحاسبة. وهذا ما يقودنا بدوره الى ضرورة الإصلاح السياسي ومركزيته.

لذلك، نكرّس قسمًا من هذا الكتاب للإصلاحات السياسية التي تمثّل المعالم الرئيسية لـ"الجمهورية الثالثة" المطلوب إقامتها على مبدأ المواطنة الجامعة ومفهوم سيادة القانون؛ بكلامٍ آخر، المقصود هنا تأمين الشروط اللازمة للانتقال الى دولة حديثة و"مدنية" ترتكز على قيم المساواة والحرية والعدالة الاجتماعية، بدلاً من الطائفية والمحاصصة والزبائنية. دولة "تجسد في جميع الحقول والمجالات دون استثناء" المبادئ العالمية لإعلان حقوق الإنسان، كما نصت عليه مقدمة الدستور المعدَّل بالاستناد الى الطائف.

ونبيّن في هذا القسم كيف أنه كلما ترسّخت الطائفية، ازدادت سلبيّاتها. لذلك، فإننا نشدد على أنّ ازدياد قوة هذه الظاهرة منذ الحرب يجب أن يقودنا إلى إدراك أكبر للحاجة إلى إعادة النظر في الدور المحوري الذي تواصل الطائفية لعبه في الحياة السياسية اللبنانية، وإلى التفكير الجاد في الاستراتيجيات التي يمكن أن تؤدي إلى التغلب عليها بدل تسويغ الاستسلام لها. وقد أضحت هذه المهمة بطبيعة الحال، أكثر تعقيدًا مما كانت عليه قبل عام 1975، أو عند اعتماد اتفاق الطائف عام 1989، لكنها أصبحت أيضًا أكثر إلحاحًا بسبب الانتشار المستمر لضرر الطائفية، سواء في المؤسسات العامة أو داخل المجتمع.

لعلّ الأهم هنا أن الأمل بإمكان تجاوز النظام الطائفي الراهن قد تمّ إحياؤه خصوصًا من خلال ما عبّر عنه الشباب من تضامنٍ وتعالٍ على الانتماءات الطائفية والمناطقية والفئوية على امتداد أيّام الانتفاضة التي اندلعت في تشرين الأول 2019.



نقطة الانطلاق للإصلاحات التي ندعو إليها هنا، هي العمل في آنٍ واحد، على تنفيذ أحكام الطائف التي لم تُنفَّذ بعد، وعلى تصحيح اختلالاته. إن الإصلاحات الدستورية التي نقترحها هنا تستند إلى مبدأ إعلاء "منطق المؤسسات" على أيّ اعتبار آخر، اي ان المقصود منها ليس إعادة توزيع السلطة بين مختلف الطوائف، بل إقامة "الجمهورية الثالثة" المستندة الى تعزيز دور مؤسسات الدولة وتحسين أدائها، وذلك من دون أن نتجاهل التوازنات الطائفية التي تعكسها بنى المؤسسات الكبرى للدولة والسلطات التي يتمتع بها أصحاب المسؤولية فيها.

وفي انتظار بروز ميزان قوى داخلي يسمح بوضع لبنان على طريق فعلي لتجاوز الطائفية، فإن هدف مثل هذه الإصلاحات هو تحصين لبنان تجاه المآزق الكامنة في دستور الطائف، وسد ثغراته من خلال معالجة الاختلالات في عمل كلٍّ من السلطتين التنفيذية والتشريعية والعلاقة بينهما، كما في علاقتهما بالسلطة القضائية.

في طليعة الإصلاحات الضرورية، بالإضافة إلى أهمية معالجة عيوب الطائف، نرى وجوب الانتقال إلى نظام المجلسَين، كما تنص عليه المادة 22 من الدستور، ما دام المنطقان الطائفي والفردي لا يزالان يتعايشان في لبنان، على الرغم مما يشوب العلاقة بينهما من توتر. هكذا، في هذه المرحلة يضمن مجلس الشيوخ، المطلوب إنشاؤه، التمثيل العادل للطوائف، في حين يؤمّن مجلس النواب المشاركة "المواطنية" غير الطائفية.

ما ندعو اليه من عدم الأخذ بالاعتبارات الطائفية، بل فقط بمعايير الجدارة والكفاءة، بالنسبة إلى جميع الوظائف في الإدارة وعلى كلّ المستويات، لن ينصف مبدأ المساواة بين المواطنين فحسب، بل يساهم أيضا في تحسين فعالية الإدارة ونوعية خدماتها، فضلًا عن وضع حدٍّ للزبائنية والمحسوبية اللتين تشكلان الركيزتَين الرئيسيتين للفساد والهدر فيها وتقوّضان دورها وسمعتها.

المطلوب ايضاً تنفيذ "اللامركزية الإدارية الموسعة" التي ينص عليها اتفاق الطائف. ولا شك في أن القيام بذلك سوف يؤدي الى تحفيز التنمية وتشجيع المشاركة وتعزيز الرقابة المحلية، كما أنه يساهم إلى حدٍّ ما في الحفاظ على بعض الخصوصيات المناطقية. غير أنه، من أجل تحقيق ذلك، لا بدّ من رفض التفسيرات القصوى التي يحاول البعض من هنا وهنالك إعطاءها للامركزية المطلوبة؛ أي تلك التي تسعى الى الحدّ من نطاقها بحيث لا تتعدّى اللاحصرية الإدارية من ناحية، وتلك التي ترغب في توسيع نطاقها إلى شكل من أشكال الفيديرالية من ناحية أخرى.

إن ما نسعى إلى تعزيزه من خلال الدعوة إلى استقلال القضاء، هو المبدأ الأساسي للفصل بين السلطات، أي ما يشكل حجر الزاوية في مفهوم دولة القانون. وبطبيعة الحال، فإن حماية أكبر للقضاء من التدخل السياسي، لا بدّ من أن تؤدي الى حماية أفضل للحقوق والحريات. وهذا شرط ضروري أيضًا لاستعادة الثقة في الدولة ووضع البلاد على طريق النموّ في زمن احتضار النموذج الاقتصادي والمالي الذي ساد بعد الحرب.

يشمل استقلال القضاء في فهمنا له كل الجسم القضائي، أي بما في ذلك القضاء الإداري والمالي. ولا شكّ أن الوقت قد حان أيضًا لإصلاح عمل القضاء ولإعادة النظر في دور المحاكم الخاصة والاستثنائية واختصاصها، إن لم يكن في سبب وجودها نفسه، مثل المحكمة العسكرية أو المجلس العدلي.

من المؤكد أن لسلطةٍ قضائيةٍ معزّزٍ استقلالها، دورًا كبيرًا في مكافحة الفساد. مع ذلك، يجب أن نحرص على عدم الخلط بين المسائل. فأمام المحاكم يجب أن يُحاسَب الحكّام على إخلالهم بواجباتهم القانونية، على اختلاف أنواعها، ولكن يبقى أنه تقع على الناخبين في آخر المطاف مسؤولية محاسبة ممثّليهم في صناديق الاقتراع على أدائهم السياسي؛ ومن هنا تأتي الأهمية الحاسمة لقانون الانتخابات.

لذلك نقترح إصلاحًا لقانون الانتخابات يُبقي النظام النسبي ولكن يُبدّل من قواعد تطبيقه لجعله أكثر عدلًا وتمثيلًا. والواقع ان تطبيق هذا النظام على الوجه المُشَوَّه الذي اعتُمد في قانون 2017 قد أدّى الى عدد من النتائج المعاكسة لتلك الملازمة عادة للنظام النسبي. فحصر الاقتراع التفضيلي مثلاً بصوت واحد (بدل اثنين في الأقلّ) جعل التنافس داخل اللوائح أشد أحياناً من التنافس في ما بينها، مما قوّض المعنى السياسي للانتخاب على أساس اللوائح والبرامج. كما أن حصر الصوت التفضيلي في القضاء، بدل جعله حرًّا على صعيد المحافظة، قد غلّب بدوره الاعتبار المحلي الضيّق، بما فيه الطائفي، على المعنى السياسي لاعتماد المحافظة كدائرة انتخابية مع ما تمثّله من تنوع، ولا سيما من اختلاطٍ طائفي في معظم الأحيان.

لذلك يقتضي عدم حصر التصويت التفضيلي بالقضاء وبمرشّح واحد. وأخيرا، كيف يمكننا ألّا نؤكد ضرورة خفض سنّ الاقتراع إلى 18 سنة، وكذلك تأمين تمثيل أفضل للمرأة، باشتراط تخصيص حصة لها مثلًا، لا تقلّ عن ثلث المقاعد على جميع اللوائح المتنافسة في الدورتين الانتخابيتين أو الثلاث المقبلة.

تبقى ضرورة التأكيد أن الإصلاحات التي ندعو اليها تساهم بدورها في تحصين لبنان تجاه تداعيات الصراعات في محيطه. ولكن لا شكّ أيضًا في أن لبنان سيتعزز استقراره لو التزم فعلاً سياسة "النأي بالنفس"، أي بكلام آخر سياسة عدم الانحياز تجاه المحاور الإقليمية والدولية، مع تأكيد تضامنه الثابت مع قضايا العرب المشتركة والعمل من أجلها.

كان لا بدّ، قبل البحث في الإصلاحات المطلوبة، من أن نخصص القسم الأول من هذا الكتاب للمكوّنات الثلاثة الرئيسية لـ"أصول المسألة اللبنانية"، عنينا بها الطوائف والدولة والمواطن.

ففي الفصل الأول عَمِلنا على تبيان أن العامل الأساسي الذي يحافظ على لُحمَة الطوائف ويُحرّكها لم يعد المُعتقد الديني الذي تأسست من حوله، بل أضحى عامل "العصبية" بحسب النموذج الَقبلي، كما شرحه ابن خلدون في "المقدمة" الشهيرة. وكان لا بدّ أيضًا من تبيان كيف تطوّرت، لا بل كيف تحوّلت، هذه الطوائف عبر العصور، في حين لا يريد البعض أن يرى فيها سوى قدرٍ محتوم أو فرادةٍ أزلية.

ولما كان الاعتراف بالفرد هو من أركان مفهوم المواطنية، فقد حاولنا في الفصل الثاني استخراج العناصر التي ساهمت في نموّ الفردانية في لبنان المعاصر، كما تطرّقنا بعدها الى مسألتَي المساواة والمشاركة السياسية، المكوِّنتين بدورهما للمواطنة. وحاولنا من ثمّ أن نبيّن كيف أن الدولة اللبنانية والنظام السياسي القائم لا يسمحان بتَحَقّق المواطنية التامة بسبب تغليبهما حقوق الطوائف على حساب حقوق الافراد.

تبرز هنا مركزية علاقة الدولة بكلٍّ من الطوائف والافراد، مما جعلنا نخصّص الفصل الثالث للنظر في ظروف قيام الدولة اللبنانية وفي إشكالياتها البنيوية. وقد قادنا ذلك الى الخُلاصة أن الدولة تكون جديرةً بهذه التسمية فقط عندما تنجح في فرض استقلاليّتها عن الطوائف المختلفة وتكوين حيّزٍ خاصّ بها. وليس المقصود هنا دولة تُقام في وجه الطوائف من جهة، ولا دولة تقوم على تسامح الطوائف تجاهها من جهة اخرى، بل دولة قادرة على احتواء الطوائف من ضمنها وعلى تجاوزها في الآن نفسه. وعندها يكون في إمكان اللبنانيين أن يعبّروا عن أنفسهم، بل أن يُسمِعوا صوتهم، كـمواطنين متساوين وأحرار.

بعد المكوّنات الرئيسية لـ"المسألة اللبنانية"، نبحث في القسم الثاني من الكتاب في القضايا المتعلقة بهشاشة الدولة وأزمة النظام السياسي اللبناني. فنتوقف أوّلًا عند جذور الحرب في لبنان (1975-1990) ومساراتها، ومن ثمّ نقدّم استعادة تقييميّة لاتفاق الطائف الذي سمح بإيقاف هذه الحرب وإرساء نوع من "السلم الأهلي". نبرز هنا من جهة، أهمية التوازنات الجديدة، الداخلية والإقليمية، التي عكسها هذا الاتفاق والتي سمحت بإسكات المدافع، كما نبيّن من جهة أخرى، نقاط الخلل في هذا الاتفاق والمشاكل الناجمة عن الانتقائية في تطبيق بعض بنوده أو في تشويه بعضها الآخر في الممارسة. ومن هنا، ننتقل في القسم الأخير من الكتاب الى تفصيل الإصلاحات التي باتت مطلوبة في رأينا والتي أشرنا الى عناوينها في مطلع هذه المقدمة.

في الختام، يهمّنا التذكير بهذه الكلمات من "ذكريات" ألكسي دي توكفيل، التي اختارها دومينيك شوفالييه ليضعها في مطلع كتابه المرجع عن لبنان، "مجتمع جبل لبنان في عصر الثورة الصناعية في أوروبا"، الصادر عام 1971:

"إنني أميل إلى الاعتقاد أن ما يُسمّى بالمؤسسات الضرورية غالبًا ما يكون تلك المؤسسات التي اعتاد عليها المرء، إلا أن نطاق الممكن في ما يتعلّق بالحقل العام، هو في الواقع أرحب بكثير مما يتصوّره البشر الذين يعيشون في أيّ مجتمع".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها