الإثنين 2021/05/10

آخر تحديث: 12:27 (بيروت)

شاكر الأنباري... مقبرة المثقفين العراقيين

الإثنين 2021/05/10
شاكر الأنباري... مقبرة المثقفين العراقيين
مدفن الجواهري في "مقبرة الغرباء" في منطقة السيدة زينب في دمشق.. وأدناه: مدفن سركون بولص في برلين
increase حجم الخط decrease
خلق الروائي الإسباني كارلوس زافون، مقبرة من حروف، لا يدخلها سوى عشاق الفكر، والعقل، والخيال، سمّاها مقبرة الكتب المنسية. يجد فيها الزائر أي كتاب ممنوع أو مخطوطة ضائعة، وهي فكرة خيالية لا تظهر إلا في الروايات.

لكن ما المانع من تنفيذها على أرض الواقع في أحد بلداننا المشرقية، في العراق على سبيل المثال. ليس للكتب هذه المرة، بل للمثقفين الذين ماتوا بعيداً من بلاد النهرين.

رموز كبار للثقافة بأنواعها، من مسرح وشعر ورواية وموسيقى وغناء وفكر، لدينا منهم الكثير مثل: علي الشوك، فوزي كريم، محمد مهدي الجواهري، هادي العلوي، زها حديد، فالح عبد الجبار، خليل شوقي، ناهدة الرماح، فلاح صبار، فؤاد سالم، حميد العقابي، حسين الموزاني، محمد غني حكمت، بسام فرج، بلند الحيدري، نازك الملائكة، رافع الناصري، عبد الوهاب البياتي، مصطفى جمال الدين، على سبيل المثال لا الحصر. هناك مئات من مصابيح الثقافة العراقية غابت، وتوارت في أرض الغربة بعيداً من الوطن. حول بغداد، وعلى ضفاف دجلة الخالد، دجلة الخير التي حيّا الشاعر الأكبر سفحها من بعد، يمكن اختيار بقعة تجاور النهر، لتقوم الحكومة العراقية ببناء صرح عال يشبه البرج، تسميه برج الثقافة. تدفن رفات كل الرموز حول ذلك البرج باهتمام استثنائي، لتكون القطعة المنتخبة مقبرة للمثقفين على غرار مقبرة الكتب المنسية للروائي الإسباني الراحل كارلوس زافون.

والبرج هو نصب شاهق متفرد، ينبغي أن يكون أعلى من برج الاتصالات في المنصور، وأعلى من أبراج القصر الجمهوري المنتصب هو الآخر على ضفاف دجلة، في ما سُميت بالمنطقة الخضراء.

وفي الليل تضيئه مصابيح تشع من بعيد، يهتدي إليها كل سائح، وغريب، وتائه، ومتعب من الحياة.

توفر الحكومة، ممثلة بوزارة ثقافتها، أو واحدة من مؤسساتها المعنية بالعلم والأدب، باصات مجانية تنقل السياح الراغبين في زيارة المقبرة، حيث يرافقهم فيها متخصصون في تاريخ العراق الثقافي، منذ حضارة سومر حتى الألفية الثالثة. على كل قبر توضع أهم منجزات الراحل، وصورة ملونة له، ودفتر يسجل الزائرون فيه انطباعاتهم عن المقبرة ذات الشوارع الواسعة، ومساكب الزهور والتماثيل، وعن واحد من الراقدين في المقبرة. ولا بأس أن تؤلَّف كتيبات تلقي الضوء على الميتين، ومشاركاتهم في تلك المسيرة المتواصلة، وعذاباتها، منذ قرن.

كما تنطلق "باصات المعرفة" من نقاط محددة في بغداد، مثل ساحة التحرير وساحة النصر والكرادة وملعب الشعب وحديقة الزوراء والمتحف الوطني، مجاناً، لمن يرغب في زيارة المقبرة ليطلع على وجوه أبناء بلده ممن تغنّت بهم الصحف، والمجلات، والصالات، والمنابر. وغنت بأسمائهم البلاد باعتبارهم ضمير شعب ما زال متماسكاً، ومِلحاً لتراب أرض تغطي خريطتها نفحة القداسة.

شعب لا يستذكر مبدعيه، ومفكريه، ورواد نهضته، سيجد نفسه عارياً أمام التاريخ والأمم. وسيرتكن إلى الخرافة، والأساطير، والنعرات الحيوانية التي تجاوزها منطق العقل. ومهمة مثل تلك يمكن أن تتبناها نخبة سياسية، واجتماعية، واقتصادية، ممن يدير البلد في المرحلة الراهنة.

لكن من شبه المؤكد أن معظم البرلمانيين، والوزراء، والدرجات الخاصة، والوجهاء الخلبيين، لم يسمعوا برموز مثل تلك. وإن سمعوا بهم، فهم لم يطّلعوا على منجزهم. وإن اطلعوا على منجزهم، فهم يتمنون لهم رقدة أبدية في المقابر الباردة حيث هم. لم لا، فقد كانوا مزعجين لهم أثناء حياتهم، وسيكونون مزعجين لهم بعد الممات، كونهم حاجزاً صلداً ضد تمزيق الوطن، وترسيخ الجهل، وبيع التاريخ في سوق النخاسة التي نعيشها.

(*) مدونة نشرها الكاتب العراقي شاكر الأنباري في صفحته الفايسبوكية.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها