الجمعة 2021/04/09

آخر تحديث: 09:14 (بيروت)

"الأبّ" لفلوريان زيلر.. ذلك الخيط الواهن الذي يربطنا بالواقع

الجمعة 2021/04/09
increase حجم الخط decrease

 

خرف الشيخوخة مرض مرعب يصيب الأغنياء والفقراء، الأذكياء منهم والأغبياء على حد سواء. هل من طريقة سينمائية لالتقاط تجربة خاصة ومتطرفة مثل خرف الشيخوخة؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل يجب أن تجرّب السينما؟ ذات مرة، كتب جون ميلتون في "الفردوس المفقود" إن الطريق من الجحيم إلى النور طويل وصعب. بعد مشاهدة الباكورة السينمائية لفلوريان زيلر، يتضح أن المسار المعاكس أطول وأكثر صعوبة.

في باكورته السينمائية، "الأبّ"، يتخذ الكاتب والمسرحي الفرنسي فلوريان زيلر، المرضَ، متكأً لتناول أعباء التقدّم في العمر ومعضلة الأبناء بين حاجتهم للتحرّر من التزام تتطلَّبه العناية بوالد يعاني تشوّشاً ذهنياً والإحساس الطبيعي بالواجب تجاهه. "الأب" فيلم كلاسيكي رصين، ليس فقط لتناوله موضوعاً مهمّاً ومُلحّاً في مجتمعات صناعية تشهد تزايداً في أعداد كبار السنّ، ولكن أيضاً لتولّي مهمّة بطولته اثنان من عظماء المسرح الأنغلو ساكسوني، أنتوني هوبكنز وأوليفيا كولمان. في سيناريو واحد تقريباً، يؤفلم زيلر مسرحيته التي حملت العنوان ذاته، منجزاً عملاً سينمائياً يعتمد فكرة الفضاء/الفراغ ليعكس الذهن المرتبك والمشوَّش لبطله المسنّ.

يحاول زيلر التقاط ما يمكن افتراض أنه جوهر تجربة مؤلمة ومعقدة مثل فقدان مسار الواقع وتبخُّر عقل من نحبّهم أمام أعيننا بلا حول ولا قوة. لا يفعل ذلك عن طريق المؤثرات الخاصة ولا يخترع موارد غريبة لمحاولة إيصال/ملامسة كيف يمكن معايشة مثل هذا الوضع. بل يقوم بذلك بطريقة بسيطة ومباشرة: المونتاج. قصة الفيلم بسيطة للغاية، رغم صعوبة شرحها، لأننا لا/ولن نعرف أبداً ما هو حقيقي وما هو غير حقيقي في ما نراه. من حيث المبدأ، سنقول إن هناك أبّ وابنة. الابنة وقعت للتو في الحُبّ وتتطلَّع إلى حياة جديدة في باريس مع شريكها، ولكنها في نفس الوقت تعاني تدهور حالة والدها، الذي في ما يبدو كان رجلاً كاريزمياً. ما من شك في أن ملايين الأشخاص حول العالم سيرون أنفسهم في المشاكل التي تعانيها الابنة، وهي امرأة في منتصف العمر تشعر بالذنب بسبب "تخلّيها" عن والدها، ولكنها تعاني أيضاً حين لا يتعرّف عليها أو يعاملها بجفاء أو يكرّر عليها حقيقة أن أختها (المتوفاة) كانت دوماً هي مفضّلته.


أنتوني هوبكنز يلعب دور الأب أنتوني، وهو رجل ثمانيني يعيش في شقة لندنية أنيقة. ابنته آن (أوليفيا كولمان) تتولّى العناية به بمساعدة ممرضات مختلفات، لكن الرجل أجبر لتوّه إحداهن على رفض استكمال وظيفتها، متهماً إياها بسرقة ساعته الأثيرة. تعلن آن أنها ستعيش في باريس وأنها ستعرّفه على فتاة أخرى لتعتني به. من المفترض ألا يفعل أنتوني شيئاً حيال ذلك القرار. هنا يكشف الفيلم حيله. ما نشاهده هو كيف يواجه أنتوني الموقف، ولاحقاً كيف يفقد إحساسه بواقعه ويستعيده ثم يفقده مرة أخرى. لهذا السبب يبدأ الأشخاص والوجوه والأوقات والسيناريوهات في الاندماج معاً والانصهار داخل بوتقة/عقل انتوني.

من خلال استخدام اللقطة واللقطة المضادة، مع تغييرات طفيفة في المشهد وتوليد لحظات من الإزاحة (مثل دخول غرفة ومغادرتها)، بحيث يتغيّر الممثلون في نفس المشهد أو التسلسل؛ يعمل الفيلم على تعميق ارتباك الرجل وتفسير ألغاز العقل بشكل مرئي، بحيث يتوقّف المتفرج نفسه عن التساؤل عن حقيقية أو موثوقية ما يراه. وهذا، تحديداً، إنجاز الفيلم الكبير. بتخلّيه عن الاستثمار في التشويق والإثارة (يتوهَّم أنتوني مؤامرة عائلية ضده)، يكمل الفيلم ما بدأه ويأخذ بيد متفرجه لمعاينة الفوضى التدريجية لدماغ أنتوني، وهو مسار يتضمّن أيضاً لحظاته الحادة والعدوانية وأخرى لطيفة وناعمة يطوّر فيها الرجل مهارات لم يكن يعرف حتى أنه يمتلكها.


يحتلّ هوبكنز كل العناوين الرئيسة لدوره اللافت وباعتباره مُفضَّلاً في سباق الأوسكار (رغم صعوبة تحقيق ذلك). الوقت وحده كفيل بإخبارنا، لكن من المحتمل جداً أن ينتهي هذا الأب الغاضب أحياناً والساحر أحياناً، المرتبك على الدوام، بأن يصبح أكثر أدواره شهرةً بعد شخصيته الأيقونية هانيبال ليكتر التي أدّاها في فيلم "صمت الحملان" (1991، جوناثان ديم). هوبكنز رائع، هذا مؤكد، في دورٍ صعب للغاية يربك المشاهد، لأن المرء لا يعرف ما إذا كان ما يراه حقيقياً أم من نسج خياله. عبر تخطيط دقيق، لا يلعب المخرج بالفضاء فحسب، بل يتلاعب أيضاً بوجهة النظر في الفيلم الذي يذكّرنا أحياناً بسلالم بنروز التي لا تؤدي إلى أي مكان.

من هذا "الرهان" لإعادة تشييد هذا النوع من التشتت العقلي (الذي يملك بعض الصلات بأفلام سابقة مثل "عقل جميل" (2004، رون هاورد)، يقوم زيلر وكاتب السيناريو المخضرم كريستوفر هامبتون وهوبكنز نفسه، ببناء متاهة شعورية لرجل لا يدري تماماً بشأن ماضيه أو حاضره، عائش في واقع مراوغ ومتوهَّم، لكنه، أحياناً، يعي خسارته. وفيما يداوم الفيلم على عرض تجارب بقية أفراد أسرته ومقدّمي الرعاية إلينا من خلال منظوره المتداعي، يتمكّن أيضاً من نقل معاناة وألم الابنة، التي تدرك تدريجياً أن والدها لم يعد كما كان وأن لا شيء يمكنها فعله حيال ذلك، بخلاف مساعدته في تلبية احتياجاته الأساسية أو الاستعانة بشخص آخر للقيام بذلك.

ربما تكون أوليفيا كولمان الممثلة الأكثر سخاءً في السينما المعاصرة. هنا، كما في دورها في السلسلة التلفزيونية "التاج"، تصير دعامة توازن وكرامة (من بين أشياء أخرى) بأداء منضبط لا يلفت الانتباه إلى نفسه إنما يعمل كمعزّز للشخصية الرئيسة وتأكيد غرابتها أو فرادتها. في السلسلة المَلَكية، كانت جيليان أندرسون في دور مارغريت تاتشر، وهنا هوبكنز في دور الأبّ، هو الممثل/الشخصية المنوط به تأدية العمل التعبيري المباشر، وهو شيء يفعله بجدارة تشهد بها موهبته وتمكّنه من شخصية صعبة البناء والاستدامة بسبب حالتها الدائمة من الارتباك.

يتمتع "الأبّ"، مثل العديد من الأفلام الأخرى المحتفى بها والمرشّحة لجوائز هذا العام، بهيكل مسرحي يحدّ من إمكانياته التعبيرية. يتمكّن زيلر، عبر المونتاج، من إعطاء هالة سينمائية لعمل من السهل تخيّله على خشبة المسرح، فقط بإضافة مداخل ومخارج الممثلين وتغيير الإضاءة والمَشاهد. لكن هذا لا يكفي دائماً، وفي بعض الأحيان يتسلّل الإحساس بهذه القيود عبر الشاشة في فيلم تندر فيه المشاهد الخارجية. لكن، بفضل الممثلين، وبشكل أساسي، لعالمية موضوعه، تمكَّن الفيلم من نقل المشاعر والارتباك والمخاوف التي تمرّ بها شخصياته. إنها تجربة قوية ومُحزنة ومؤلمة تذكّرنا من جديد بهشاشة ذلك الخيط الواهن الذي يربطنا بما نسمّيه الواقع.


(*) رُشّح الفيلم لستّ جوائز أوسكار، من بينها جائزة أفضل فيلم.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها