الثلاثاء 2021/04/27

آخر تحديث: 19:23 (بيروت)

رأس المال الذي تبخّر مع الودائع

الثلاثاء 2021/04/27
رأس المال الذي تبخّر مع الودائع
اللبناني الفهلوي (غيتي)
increase حجم الخط decrease
"لبنان الرسالة". لطالما بدا الشعار أقرب إلى سلعة لفظية، عُلكة خطابية سرعان ما تفرغ من السكّر. حتى اللبنانيين أنفسهم لم يأخذوه يوماً على محمل الجد كلافتة معبّرة عنهم وعن "الكيان" في الصميم، إنما كـ"كيتش" سياسي وطائفي يمهد غالباً لنزاع على حصص، واستعصاء النظام، أو تغوّل فئة لبنانية على أخرى، وغالباً هي "الأخرى" التي تعتصم بحبل "الرسالة".


التعايش بين الطوائف والأديان، السلام الممكن والمُفكّر فيه دوماً من دون أن يتمظهر، التنوع كقيمة لا كفتيل، والجسر بين شرق وغرب... خصائص كرّسها البابا يوحنا بولس الثاني خلال زيارته لبنان، في مصطلح، وتغنّت بها، من قبله ومن بعده، نُخبٌ وأجيال. لكن الجميع ظل مدركاً، في قرارة نفسه، بأنها الضحك اللطيف على اللّحى، قفشة في إعلان تلفزيوني لبلد الأرز والتبّولة، فيروز والاقتتال الأهلي.

بيد أن هناك ما صدّقه اللبنانيون جميعاً وتوافقوا عليه فعلاً، في المَحكي والمُضمَر، بكل طوائفهم وقبائلهم، أحزابهم وزواريبهم وطبقاتهم الاجتماعية، وتلقّفه الخارج بشكل أو بآخر. هو رأس المال الثقافي اللبناني الذي ينحدر الآن إلى الهاوية نفسها، مع اقتصاد البلد وأَمنِه ومالِيَّته. لعلها المحصّلة الطبيعية: رأس مال وهمي يطيح رأس مال رمزياً. لكنها، ورغم مئة عام متذبذبة، ربما تكون المرة الأولى في تاريخ لبنان الحديث. إذ لم يحدث أن نالت الحروب الأهلية والإقليمية المتجددة، من رأس المال، هذا مثلما ضعضعته وبدّدته الأزمة الراهنة. ولعله من المعايير القليلة، إن لم يكن الوحيد، الذي يؤطر اللبنانيين في كتلة بشرية متجانسة ومنسجمة نوعاً ما، لجهة حملها وإيمانها الحقيقي بهذه "الثروة الوطنية" المناهزة للبنان الخدمات التاريخية والطقس المعتدل، سواء بالمحقَّق الملموس، أو بالمُتخيّل المُشتهى.

هو رأس المال الذي، في الكتيّب التسويقي اللبناني، كما في ضمائر اللبنانيين وناظريهم، مجموع حيازات اجتماعية (تعليم، أفكار، طريقة في العيش والكلام واللباس، في العمل والتفاعل مع المُشابِه والمُغايِر، رؤية للذات والحياة، شكل الطموح وخريطة الغد، النظرة إلى المُحيط والعالم، ممتلكات مادية وطنية، ورمزية عامة وخاصة،...). وهذه الحيازات، المتوارثة عائلياً وجَماعاتياً، أو المُكتَسَبة المُراكَمة، يفترض أنه تُحرك صاحبها/أصحابها على السلالم الطبقية، وهي غالباً دافعة للترقي، بصرف النظر عما إذا تمّ نيل الترقي هذا في الواقع، أم ظلّ محلوماً به ومُنتظراً. في الحالتين، هو حاضر ومؤثّر ومُنتج لهوية فاعل اجتماعي يعتنق هذه الرزمة.

لبنان الجامعة والمكتبة والصحافة، الأفكار والنقاش، المستشفى والسياحة، السرية المصرفية والحريات العامة والفردية الفائضة عما يتوافر حوله، قِبلَة من تتقطّع به السبل في بلاده، سواء كلاجئ سياسي أو عامل أجنبي أو باحث عن دواء في الصيدليات التي، حتى في عز الحرب الأهلية (1975-1990) وانهيار الليرة آنذاك، لم تفرغ أو تستغيث إلا قليلاً، أسوة بالسوبرماركت وسِلعه "النظيفة" المحلية والمستوردة. حتى المصارف حافظت، في الحرب، على تماسكها وظلت "جذابة" في عيون اللبنانيين والعرب.

ثم هناك اللبناني "الشاطر" و"الفهلوي"، المتعلِّم وسريع التعلُّم والتأقلم، الناطق بلغات أجنبية، فعلاً أو ادعا.ءً ليس ذلك للقول بأن الجميع كان ينال المستوى ذاته من التعليم والفرص والموارد، لكنها الصورة التي دبّجها اللبنانيون عن أنفسهم وبثّوها لبعضهم البعض وللآخرين، كل بطريقته وخطابه ولُبوسِه. وهناك صورة اللبنانيين كبضاعة مرغوبة وموضَّبة بعناية للتصدير. حتى السوق المحلية، إن لم يجد هؤلاء منفذاً للهجرة، تشكل جزءاً من عُدّة متكاملة للاسترزاق من الحجّاج الباحثين عن "منتجاتها" المميزة عربياً ومتوسطياً، منتجات أشبه بفِعل السِّحر في الهواء يقلبه ماءً وألعاباً. حتى الأديان والمذاهب، وفي أوج احتكاكاتها الدموية الهدّامة، انخرطت في لعبة التعليب والاستقطاب، السياحية الروحية، أو ترفيه الفرجة على التنوع.. من قبيل ما يحصّله زوار الدغل إن احتُويت "إثارته" في محمية أو حديقة بأقفاص.

الطوابير أمام الأفران ومحطات الوقود ليست جديدة، ولا الانفلات الأمني وازدهار التهريب وتداعي القانون والقضاء والمؤسسات. لكن الجديد أن هذه المِحَن الآن تضاف إلى المعلوم من فساد وترهل واستقواء، تفضي كلها إلى تشظي الصورة الكبرى بسرعة خيالية، الصورة التي صمدت عقوداً، تنكسر في سنة أو اثنتين.

لبنان الآن مرتع جريمة منظّمة. مخدراته (هي مخدراته طبعاً، ولو صُنعت ووُضّبت في مدينة القصير السورية) تقطع الطريق على صادراته العربية. اللبنانيون غير مرغوب فيهم، زواراً ومهاجرين. مطرودون ومعتقلون. بلادهم المُعاقَبة دولياً، باتت تُذكَر مع أفغانستان (المخدرات)، الصومال (الجوع)، فنزويلا (الإفلاس)، وسائر أميركا اللاتينية (سلاح، دولة فاشلة، كارتيلات نافذة، نظام استبدادي مقنَّع)... تسمية "سويسرا الشرق" كانت مثيرة للسخرية ككليشيه افرنجي، وصارت نكتة سوداء عن مأساة. لبنان الساقط قطاعه الصحي والتعليمي والفني ما عاد لديه ما يعوّل عليه أو يبني فوقه. البزنس صفر، والمصارف مغارات علي بابا، لا تحظى بثقة أحد.

السقوط السياسي اللبناني بات مُعتاداً. التناحر الطائفي، حتى الموت والانفجارات والمجازر، نكهة مألوفة في الحلوى اللبنانية. لكن الفقر العميم، وبفعل فاعل، مخرز في عين رأس المال الذي لم يمتلك سواه بلدٌ بلا موارد طبيعية أو صناعية أو إنتاجية يُعتدّ بها. الطبقة الوسطى التي شكّلت، عشية حرب 1975، أكثر من ثلث المجتمع، لطالما نثرت قِيَمها وعلاماتها في مجمل السياق اللبناني وطبقاته، وطُوّبت مسطرة الاكتفاء والنجاح. وهي تُعدَم الآن، وبالتالي يُردَى معها نموذجها ومِثالها، تُقتلع جذوره العميقة من "المُركَّب اللبناني". ما زال كثر يظنون أنهم يملكون ترف التثقيب في "ثقافة الطبقة الوسطى" من باب الاشتغال بالنقد تحت وطأة واقع صلف. في حين أنهم، في اليوميات، مثل الجميع، ينعونها ويخوضون عليها حِدادهم المرّ... وهذا معنى إضافي للفقر، الدمار اللبناني الأكثر أصالة وعمقاً، الأمل المنسوف. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها