الأربعاء 2021/04/14

آخر تحديث: 17:23 (بيروت)

محمد سويد.. أنا في اليانسون

الأربعاء 2021/04/14
محمد سويد.. أنا في اليانسون
صورة مأخوذة العام 1975 تجمع جاك نيكولسون وأنجليكا هيوستون التي لم تكن معروفة كممثلة يومها
increase حجم الخط decrease
(ملهاة رغمًا عنها في أربعة فصول)

‏(I)

اليوم، تبدو الحكاية وكأنها كذبة الأول من نيسان عام 1975، بطلها جعفر نعيسي، أشقى أشقياء برج البراجنة. لا علامة فارقة لديه سوى انقطاعه عن الدراسة قبل إنهاء المرحلة الثانوية، وارثًا من أبيه شرب اليانسون ودكانًا صغيرًا مزودًا منفخ هواء وعدّة كاملة لإصلاح الإطارات. بنشرجي دواليب، لا غير. من إفراطه في شرب اليانسون صار اسمه جعفر يانسون. بالاحتيال جعل مهنته رابحة أكثر قليلًا مما كانت تدر لأبيه كفاف يوم عائلته. أول من ابتكر حيلة ذرّ المسامير لإحداث ثقوب في عجلات السيارات، لم يكن لجعفر يانسون منافس في طريق المطار. المسافة الممتدة من منفذ تحويطة الغدير إلى الرمل العالي كانت تحت سيادته، وكان دكانه قريبًا من مقهى الكوكودي عند مدخل التحويطة. عَمَدَ كل يوم، وقبيل ذروة ازدحام السير، إلى رش المسامير على مسافة بعيدة قليلًا من دكانه، وكان يجلس على كرسيه المعدني البالي محتسيًا يانسونه، مترقبًا في هدوء مرور السيارات وسقوط ضحاياه في شركه. المسمار أمله والأمل ثقب في دولاب، أي دولاب.

‏(II)

عصر الثلثاء، 1 نيسان 1975، حلّت أنجليكا في بيروت وحلّ معها الرزق والنعمة. ابنة المخرج الكبير جون هيوستون، اغتنمت فرصة وجودها معه في المغرب، حيث صوّر مشاهد من فيلم جديد له، وقررت "خطف رِجلها" بضعة أيام إلى لبنان. اختارت بلد العسل والبخور للاحتفال بعيد ميلادها الحادي والعشرين. وعدها حبيبها جوش دا سيلڤا بموافاتها في بيروت وطلب منها أن تتذكّر تاريخ هبوطه وهداياه في مطار بيروت، الرابعة والثلث من بعد ظهر الخميس، 3 نيسان 1975. وَقّّتَ وصوله قبل يوم من عيدها، قاطعًا المحيط الأطلسي في اتجاه لندن ومنها رأسًا على عقب إلى بيروت على متن "پان أمريكان"، رحلة رقم 771.

بحكم شهرة أبيها، طنّ خبر وجودها في فندق المارتينيز، وأضحت أنجليكا محروسة بيروت وشفيعة ملائكتها وأجمل جميلاتها. يوم الخميس الموعود، خرجت بالشورت من فندقها في عين المريسة واستقلت سيارة استأجرتها من مكتب "ليناز كار"، أقلعت بها ناهبة الطريق شوقًا إلى جوش. حطت الطائرة، نزل كل ركابها إلا جوش. انتظرت ساعة وأكثر. احتارت وتحرّت. بعد التدقيق في مانيفست الطائرة، أبلغتها موظفة شركة "پان أمريكان" أن اسم جوش ليس في عداد المسافرين، Fuck، فعلها ابن الحرام، نكث الجحش بوعده. عادت أنجليكا إلى سيارتها مكسورة الخاطر، قادت في بطء. أحست برجرجة مفاجئة خالت أنها نوبة عصبية وسرعان ما أدركت أنها ناجمة عن عطل في العجلة اليمنى للسيارة من الجهة الأمامية. انتبه إليها أحد المارة، تقدم منها وكان يتكلم مثلها، الإنكليزية، دلّها إلى سواء السبيل، إلى المعلم جعفر.

‏(III)

جاءته مثقوبة الدولاب والفؤاد. ما أن رأته انخرطت في البكاء. غمرها وربت على كتفها وقال،!Sure، لم يتقن من الإنكليزية سوى تعابير سمعها في أفلام لي ڤان كليف وجوليانو جيما، لم يحفظ منها غير Sure ليس لأنها الأسهل بل لأنها تذكّره بصديق طفولته ومراهقته وضيعته، حسن شور. لا أنجليكا ولا جعفر كانا يعرفان أن ثقبًا في عجلة سيفتح القلب على عجل. في لمح البصر، أنساها فاجعة جوش بو سيلڤا، وهي استلطفته من اسمه، Jaffar، قالت إنه يذكرها بشرير فيلم "لص بغداد"، جعفر، وزير البلاط العباسي. !Sure، أجابها جعفر وفي ظنّه أن الحب تيّمها وذهب بعقلها. رغم سوء الفهم، جاء ظنه في محله. ذابت أنجليكا. لا أعرف ماذا أحبت فيه وكيف رأته بلحيته الكثة وثيابه الرثّة هابطًا عليها وحيًا من ألف ليلة وليلة؟ يلزمني ألف عام وعام كي أفهم ما فهمته أنجليكا ولم يفهمه جعفر. ينجح الحب إذا فهم المرء أن حبيبه لا يفهم. لا يعوز الحب أكثر من كلمتين حتى يفعل فعله ويستمر. الصمت ثروة الحب والكلام مقتله. جافار/شور، كلمتان فحسب، هذا ما حصل. كالسلسبيل، جرت قصة حبهما. المجالس بالأمانات. لن أدخل في التفاصيل الحميمة. في المختصر المفيد، بلغ لهيب القُبَل حدًّا عَلّق أنجليكا بجعفر ومدّد إقامتها في بيروت. أنزلته في غرفتها في الفندق. حممته، عطّرته، احتفلا معًا بعيد ميلادها، علمته الأكل بالشوكة والسكين، دللته، صارت تناديه "جاجا".

‏ (IV)

غرقت في العشق وغرقت بيروت في العنف. بعد ساعات من مقتلة عين الرمانة، لعلعت الأعيرة النارية. لم تكترث أنجليكا للرصاص والقنص والقنابل، اعتبرتها مغامرة في الشرق تثري سيرتها. بيان مفاجئ من السفارة الأميركية ينصح رعاياها بالمغادرة كان كافيًا لإثارة قلقها واستعادة رشدها. رفضت حزم حقائبها وترك جعفر لبئس مصيره. جاجا أو لا أحد. ألقت بثقل سمعتها وشهرة أبيها على كاهل السفير الأميركي حتى مُنِح الحبيب الخليل العشيق تأشيرة مجاملة تأذن له بالسفر إلى الولايات المتحدة. فُتح فردوس الحلم الأميركي أمام ناظريْه. عين الحاسد تبلى بالعمى. تسلق جعفر الشهرة على سلّم أنجليكا. دورات مكثفة في اللغة الانكليزية، رجال مال وأعمال، أشهى النبيذ من وديان كاليفورنيا وأبذخ حفلات العشاء على شرف آل هيوستون، وضمنًا شرفه، في أفخر مطاعم لوس أنجلس وفي حضور أقطاب هوليوود قاطبة. سَمِّ مَنْ شئت، تجده. ما هذا الحب وما أسرعه. بسحرها الساحر، جعلته أنجليكا ممثلًا، اختارت بنفسها اسمه الفني. حذفت النصف الثاني من جاجا واستبدلته بحرف الكاف، فكان اسمه الأول جاك، ثم عدّلت لقبه يانسون، شطبت يان وأبقت على سون وأحلت اسم صديقتها نيكول محل يان، فكانت شهرته العائلية نيكولسون وصار برمته جاك نيكولسون.

‏ (V)

فيلمًا بعد فيلم، أوسكارًا إثر أوسكار، ضرب صيته الآفاق. تمرّ الأيام وتحملني الصحافة إلى مهرجان السينما في لوس أنجلس. أسعى إلى لقائه لمعرفة سبب غيابه الطويل عن الشاشة. لم أوفق في العثور على مدير أعماله. اتصلت بوكيل أنجليكا طالبًا لقاءها. حاول ثنيي متحجّجًا برفضها المقابلات. شرحت له أن أنجليكا ليست غايتي وإنما جاك، ولي ملء الثقة في أنها لن ترفض رؤيتي إذا ما عرفت أني آت من بيروت. فعلًا، وافقت والتقتني، وعلى عادتها في تدبير الأمور في سرعة، حولتني إلى لورا، مساعدة جاك ومتابعته. أبلغتني لورا أن الفرصة الوحيدة لمقابلة السيد نيكولسون ستكون في موافاته صباح الغد في مستشفى هنتنغتون، قبل نحو ساعة من إجرائه فحوصًا روتينية. نبهتني إلى مراعاة وضعه الصحي وعدم الإطالة. على أحرّ من الجمر وصلت ووجدته ولورا في انتظاري. صافحني بلغة عربية نصفها بالفصحى، نصفها الآخر بالعامية وكلها ركيكة ومكسرة. فاجأنا، لورا وأنا، بانفتاح شهيته على الكلام. روى لي حكايته كما نقلتها بتصرّف للقارئ آنفًا. سألته هل يدين بالشكر على فردوسه الهوليوودي إلى أنجليكا، وأذهلني برده أن مساميره لها كل الشكر والفضل، وأنه يحن إلى الأشياء ولا يحن إلى البشر، وإذا أُرغم على الحنين والاختيار، فهو يشتاق إلى أمه وحسن شور. طمأنته إلى أن صديق مراهقته حسن أصبح أشهر من نار على علم، مالئ الشاشات وخطيب الساحات. فتر ثغره عن كلمة ممجوجة الأحرف حسبتها، "سبحان..." لم يستطع لفظها فأتممتها عنه، "سبحان مغيّر الأحوال يا حاج جعفر، عفوًا جاك". ابتسم وقال Sure، "حسنًا شْور"، أردفت، "لكنني لست شُورًا في شأن معلومتك عن أن عملك في السينما بدأ بعد تعرفك إلى أنجليكا هيوستون عام ١٩٧٥. معروف أن ظهورك على الشاشة الكبيرة انطلق عام 1958 في فيلم The Cry Baby. أخشى أن لا يقبض أحد روايتك في حال نشرها". لم يبد انزعاجًا من ملاحظتي. سألني،

- ألم يكن في لبنان حرب أهلية عام 1958؟.
- أجل.
- إذًا بدل 1975، أكتب 1958. ما الفرق؟ هذه حرب وتلك حرب. أنت صحافي وأدرى مني. مهما اختلف الوقت، الحكاية واحدة.

وسكت جاك. أخلى ذاكرته لجعفر، ابن البرج وشبيح الرمل العالي. قالت لي لورا إنها لم تفهم ما رواه من حكايات لكنها تعلم أنها تمتمات خرف. قبل مغادرتي، أخرجت من حقيبة يدها صورة. "خذها"، قالت، "هدية من أنجليكا، أنشرها إذا أحببت".

وها هي: أنجليكا وجاجا، عام 1975 (أو 1958، سيّان).

(*) مدونة نشرها الكاتب والمخرج محمد سويد في صفحته الفايسبوكية.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها