الأربعاء 2021/04/14

آخر تحديث: 12:17 (بيروت)

"بطنها المأوى" لدُنى غالي: روايةُ وقائع لم تحدث!

الأربعاء 2021/04/14
"بطنها المأوى" لدُنى غالي: روايةُ وقائع لم تحدث!
دنى غالي
increase حجم الخط decrease
رواية "بطنها المأوى" للكاتبة العراقية دُنى غالي، منشورات المتوسط، إنجاز أدبي بما تجسده كلمة إنجاز من ثقل. فهي تحوز كلّ مقومات النص الروائي الرفيع، تقنيةً، وامتيازَ لغةٍ وثراء فكر ورهافة حس. رواية مفاجئة بشعريتها، بما في ذلك استخدامها لبعض مفردات العامّية العراقية ونوعيتها. مفاجئة ببلاغة أحكامها وعمق الرؤية التي تسند هذه الأحكام والتأملات، حدّ أنه يمكن اغتراف الكثير من الجُمل والعبارات منها، بوصفها شذرات محكمة، نافذة الفطنة، متينة اللغة. رواية رصد وتقصٍّ ذكيين للأشياء والتفاصيل، سواء تلك المتعلقة بالواقع الاجتماعي أو الطبيعة، لا تغفل الانتباه لأدنى تفصيل بصَري أو سمعي، يخدم مسارها. تحتفي بأدنى نأمةٍ مكتومة تقع هنا أو هناك: "يحدث وهو هنا في مكانه القاصي أن ينحني ليلتقط تمرة، سقطت للتو، تنوء بثقل سكّرها، يسمع صوت ارتطامها بالأرض". القارئ هنا، إزاء تلخيص شعري لما يستعيده البطل لواحد من مشاهد كثيرة تلازمه في المنفى، تعبيراً عن توقه إلى الأرض الأولى.

هي رواية ذاكرة وحاضر، لم تلتزم السرد التقليدي في تسلسله الزمني المتعارَف عليه بل نحَت إلى مداخلة الأزمنة، وهو ما يتطلب من قارئها تركيزاً وإعمالَ فكر، لأنها على النقيض من البناء الروائي السهل، الذي يَبْسط السرد بشكل أفقي مسطّح مما يحيله إلى مجرد حكي. رواية تخاتل قارئها، تبدأ من النهايات، وتزجّه في لعبة حلمية، توهمه، وكأنّ ما يجري فيها من وقائع غير مؤكّد. بطلتها مغرمة بنشر "إشاعات وهلوسات"، عن نفسها حتى لو تضررت منها، وذلك إشباعاً لخيالها! رواية تكتسي فيها الشخوص سماتٍ سحرية، بما يعنيه ذلك من غرابة وإدهاش: "لم تكن محطة قطار، كما ظنّ عامر الذي ينسى للحظة المكان الذي هو فيه. ولم تسحب مريم من خلفها حقيبة سفر، كانت تجرّ بدلاً من ذلك مرآة عملاقة مثل صليب، يزن طناً". وللقارئ أن يوغل بمخيلته ومقدرته على الاستنتاج حِيال صورة معبّرة، مشعّة كهذه، قابلة لأكثر من تعليل وتأويل. هل المرآة هنا، هي لأجل أن تنزع عن الآخرين أقنعتهم؟ هل هي مرآة "سترندبيرغ" التي تُريه العالم على حقيقته، مقلوباً؟! رواية تتلاعب بالزمان والمكان، تفصل أو تمزج بينهما في الآن نفسه. رواية حيوات ومصائر مطحونة نتيجة العسف والاضطهاد السياسي، وهي بهذا المعنى رواية خارجة من صلب السياسة، لكن ذلك لم يجرح روحها الأدبي والفني أو صفو لغتها، إذ عادة ما يتبادر مع مفردة سياسة، حين تُستثمَر أدبياً، اللغة الخشبية، إلا أنّ الكاتبة تمكنت ببراعة من أن تجعل من الواقع السياسي، رغم قتامته، خلفيةً أو بُعداً من أبعاد روايتها، وإن كانت حركة الشخصيات كاملةً، تحصيلاً مباشراً لآثام هذه السياسة كما عهدها بلد مثل العراق، حيث "لا تصحّ فيه السياسة"، وفقاً للرواية. عملٌ يُقرأ كسيرة لبلاد بكاملها لا لأفراد حتى وإن اكتسبَ هؤلاء أو جسّدوا مواصفات كلّ ما هو فردي وشخصي ويومي فيه.

وما يجدر التنويه به هنا، المقدرة المتميزة على بناء شخصيات حيّة، مقنعة، كما في الحياة، لا أثر لقسْر الكاتبة لهم على قول أو فعل. وهذه واحدة من مزايا أي عمل سردي ناجح، بل قاعدة أساس من قواعده. ونظراً لاتساع المساحة، التي تغطيها الرواية، في الزمان والمكان، يكون القارئ إزاء عمل بانورامي يمتد على فترة أربعة عقود من تاريخ العراق الحديث، منذ نهاية الخمسينيات حتى مشارف الألفية الجديدة. وهي الفترة الأكثر حرجاً وتعثراً، باضطراباتها ودمويتها، استبداداً وحروباً وحصاراً: "عاشت عائلة بسيم لحظات رعب مخيفة، في غالب مراحل حياتهم، من الانقلاب على الملك في الخمسينيات، وحتى التسعينيات، وانطلاق الانتفاضة". لكن الأحداث التي أعقبت انقلاب شباط 1963، كفترة فارقة، في الواقع وفي منظور الرواية هي ما رسم مسارها، لتتأسس وتترتّب عليها تالياً، عوالم ومصائر الشخصيات. إن استثمار الكاتبة لتداعيات انقلاب شباط أشبه ما يكون بالبذرة المتوارية التي تنتج شكلاً جديداً لا صلة شَبَهٍ ظاهرٍ بينها وبين هذا الشكل، وإن كان نتاجها. وهو ما أُشير إليه في سطور سابقة، أي اتخاذ الوقائع السياسية كخلفية أو بعد من أبعاد الرواية، بالمعنى الفني، فما نراه هو آثارها، لا هيمنتها المباشرة. ومثال ذلك، شخصية "مريم" بحضورها المميز والحاسم في القسم الأول من الرواية، المولودة في السجن لأم معتقلة عقب ذلك الانقلاب.

إجمالاً، يتواصل السرد، في القسمين، في أفق من الحياة اليومية المستوفزة، لكنها لم تعدم فترات مؤاتية وواعدة كما في الستينيات (عدا فترة الانقلاب) وأوائل السبعينيات، حيث الكثير من الدلائل كانت تبشّر بما ينتظر البلاد من نهضة شاملة، غير أنها وئِدتْ، ولم يتبق من آثارها سوى التطلع إلى الماضي، أسَفاً. هذا التوق، سواء كان لهاتين الحقبتين أو لما هو أبعد، أي الفترة الملكية، هو القاسم المشترك لكثير من شخصيات الرواية، على اختلاف مشاربهم، خاصة "الجيل الأول"، دون استبعاد الجدل السياسي حول ذلك، كالعادة. يقول شريك "بسيم" في العمل، المكنّى بـ "أبي حارث": انظر إلى وجوهنا الآن أنا وأنت، أين الماضي منا؟! أين صور الأبيض والأسود؟! كنا والله أكثر مدنية، يا أخي. لا أقول لم ينقصنا شيء، لكننا كنا على الأقل على الطريق، أليس كذلك؟!".

المتن والهامش وإمكانية استبدال موقعيهما
"رواية مع هامش"، كان العنوان الفرعي للرواية. وفي "المتن"، وهو القسم الأول منها، تسرد الكاتبة تجربة الشخصيتين الرئيستين فيه، "عامر" و"مريم"، ومغامرتهما في اللجوء والمنفى. وفي القسم المسمّى الهامش، يتم تتبّع جذورهما، مكاناً وعائلةً وما يعنيه ذلك من امتدادت للشخصيتين وعلاقات ووقائع. إنها ذريعة فنية لإنشاء رواية موازية، لا بدّ منها. فمثلما كان للمنفى روايته، فإن للوطن روايته المقابلة، وكلّ منهما يمكن عدّه الرواية الأصل، لكن بتكامل وتداخل، حيث لا يمكن الفصل بينهما، وهو ما يمثل لعبة روائية تنزع في أحيان كثيرة إلى مخاتلة القارئ، عبر أكثر من ملمح، في المكان والزمان. ومثلما عمدت الكاتبة إلى ترتيب أقسام الرواية وفقراتها بالشكل الذي هي عليه، فإنّ للقارئ اقتراح قراءة خاصة به، كأن يستبدل عنواني القسمين الرئيسين ليكون الهامش هو المتن والعكس أيضاً، كما يمكن أن يحلّ أحدهما محلّ الآخر في الترتيب. والشيء نفسه ينسحب على الفقرات التي انضوت تحت عنوان كل قسم، تقديماً وتأخيراً، بالطريقة التي اقترحها الكاتب الأرجنتيني خوليو كورتاثار في روايته "الحجلة"، التي بناها بما يُمكّن من قراءتها دون التزام أي تسلسل معهود. وما ذلك إلّا لإسعاف القارئ، في تبديد غوامض العمل، عند الحاجة، وأيضاً بسبب من أنّ الكاتبة، كما تمت الإشارة من قبل، لم تلتزم البناء التقليدي بل اعتمدت التداخل ليس في التعامل مع الزمن فحسب، بل في طريقة ترتيب وحداتها. من هنا يمكن النظر إلى نوع من استقلالية نسبية تمتعت بها وحدات الرواية، دون أن يعني ذلك تفككها.

ومن المفيد هنا، التنويه إلى أن كل قسم يتضمن وحدات بعناوين خاصة، وكان أقصرها الوحدة المسماة "كونٌ بأكمله مضاء"، التي شغلت أقل من صفحة. وقد ضمّ القسم الأول ثماني عشرة وحدة، استغرق مجموعها تسعين صفحة. أما قسم "الهامش" فتضمن أربعاً وعشرين وحدة مع مقدمة، شغلت مائة وإثنتين وخمسين صفحة.

تستهل الكاتبة روايتها بمقتبس شعري للشاعر الدنماركي سورين أولريك تومسين، ويُخيّل لي أنّ ثمة صلة بين بنيَتي القصيدة والرواية. فقد بدت الأبيات في حركة دائرية، ولذلك صلة وثيقة بمضمون المقتبس، الذي هو نوع من تلخيص لحركة العالم ومحاكاة لدورة الإنسان في الوجود. أما المستهل الثاني يتضمن نص تعاليم حول "ديانة" اللجوء الجديدة، كما يمليها على أتباعهم، الأنبياء الجدد، من المهربين! تعاليم، في كيفية إتقان فن الكذب والتزييف من أجل بلوغ الفردوس الأوروبي: "يجب أن تسرد عليهم قصة محبوكة، وحذار أن ترتجل شيئاً. اكتب كل شيء على ورقة، احفظ كل شيء، اسمك إن كان منتحلاً، وكل الكلمات العامية التي تعود إلى المكان الذي أتيت منه، أو تدّعي أنه كان مسقط رأسك. عليك أن تُقنع المحقق أنك الأفضل لهذا الدور".

هذا ما وجد "عامر"، نفسه فيه، وقد أتلف كل وثيقة تُشير إلى هويته "الحقيقية" عند بلوغ وجهته المقصودة. بعدما دفعه خاله "بسيم" دفعاً للهجرة، عقب انتفاضة آذار 1991، خوفاً عليه، لئلّا يلاقي مصير أبويه وشقيقته الصغيرة وقد اختطفوا من أمام باب منزلهم وأُعدموا في ما بعد. وبمبادرة جريئة من امرأة خاله التي تلقفته من الشارع، حيث كان يلهو مع رفاق له، ينجو من المصير المأساوي الذي انتهت إليه عائلته، التي يتعرف القارئ على ما حدث لها من خلال رواية الجيران الذين راقبوا عملية "اختطافها"، من نوافذهم أو من وراء الأبواب من قبل رجال الأمن الملثمين، مؤكدين شهادتهم بتفصيل يخصّ كيس العدس الذي رأوه يسقط من يد الأم أثناء ذلك. وهو المشهد الذي سيُستعاد، غرائبياً، من خلال زوجة الخال، وهي بمثابة أم لعامر، التي أفضت، قبل موتها، بما رأته في منامها. وهو مشهد يرقى لأن يكون واحداً من شواهد الأدب، ولجماليته ورمزيته المعبّرة بتجسيد البعد المأساوي فيه، يُثبّت نصه هنا: "روت لهم الأم قبل نومتها الأخيرة حلمها. كانت ترى حبات العدس كلما نظرت أسفل إلى الأرض، كانت الناس تدعس على حبات العدس في كل مكان، كيس العدس الذي سقط لا يفرغ، الحبات على الإسفلت، تكبر كل يوم، وتنتشر لتغطي مساحة أبعد، فأبعد، والناس لا تستطيع المتابعة في سيرها رهبة، كانت تتعثر بها في الطريق مثل حجارة". تستثمر الكاتبة هنا إمكانات الحلم اللامحدودة التي تستولد بدورها إمكانات التأويل لمشهد يمتاز بالثراء البصَري.

المساواة في الخوف
بدا الخال، في بيته، متحفظاً حيال "عامر"، وهو ما كان يستشعره الأخير، حدّ بغض خاله، هذا الذي سرعان ما سيمنحه اسماً جديداً، هو هاني. والمفارقة أن عامر لا يسترد اسمه/هويته، إلا حين يكون خارج الوطن. وهو شيء من جذور مقلوبة. أن التنويه عن هوية عامر الحقيقية بوضع هذه الأخيرة بين قوسين، في سطور سابقة، لم يكن إلا بقصد التساؤل عن أي الشخصيتين، هي الأصل: شخصية "عامر" أم شخصية "هاني"، التي لم تعرف سوى بيت بديل ترتّبت عليه حياة بديلة. أن استبدال الاسم ما هو إلا عرَض لمأزق أعمق يتعلق بالهوية وقلق الانتماء. وهو ما مارسه خاله في فترة تنكّره وتخفّيه، وقد خبر تجربة التعذيب على أيدي السلطات، حد مشارفة الموت. لا تقتصر "لعبة" الأسماء في الرواية على الرجال، فقط، فها هي صديقة "عامر" ومواطنته "مريم"، تتخلى عن اسم "وفاء" التي منحها أهلها إياه في الوطن. ما أن تخطّت الحدود. و"مريم" هذه، أو "وفاء" أو "جماهير" الاسم المشتهى لها قبل الولادة أيام المدّ اليساري، الشيوعي تحديداً. المولودة لأبوين ناشطين سياسيين. تشبّ متمردةً، ساخطةً على كل شيء في الوطن ولاحقاً في المنفى. ومن خلال أنموذجها تكسر الكاتبة، النمطية في اقتران صفة التمرد والرفض ونشدان التحرّر، بما هو ذكوري، في الغالب، كما في مثال "هولدن كولفيلد" بطل "الحارس في حقل الشوفان"، لسالنجر. والكثير سواه من نماذج الأدب عربياً وعالمياً، عدا استثناءات قليلة معروفة.

إن اتصّاف مريم بالجرأة والغرابة والثورية والزهد والقلق والتحرر حدّ الضياع، يجعل منها صورة لكثيرات من بنات جنسها، وطناً ومنفى، اللاتي يسكنهنّ الحلم، دون التفكير بالعواقب. "يستهويها الجوّالون على شاكلتها، الناس الرحّل، بأرواحهم، الذين يبحثون عن أشباه لهم، عن أنصافهم المفتقدة. الذين يتخذون من العراء بيتاً، الذين يتركون للرياح أن تحرّف قصصهم، أن تمسح الرمال، أو تضيف، أو تبلع تاريخهم تماما. يتحكم الربيع بمريم والمطر، تحلّ أينما حل، وإن كان بقعة من سراب". ولم يكن خطاب "مريم" وحده ما يجسد تمردها، بل سلوكها أيضاً الذي هو في ذاته احتجاج وإدانة. وهي لا تستثني أحداً أو شيئاً في هجائها، حتى البلد المضيف، بنظامه البارد، يطاله نقدها، كما أولئك المتوارين خلف أقنعة اليسار والثقافة من أبناء جلدتها، كما تفصح بغضب عن ذلك: "أنا بلا رجل، بلا طفل، لا بلد، لا مادّة، ولا رضى الوالدين. وهؤلاء الذين تعرفهم من حولكَ، أو لا تعرفهم، فهم جبناء مثلك، لا يملكون غير الكلام، يخفون ضعفهم هنا (...) كم أكرههم. أكره نفاقهم، ادّعاءاتهم، يساريتهم المزعومة (...)، ازدواجيتهم التي حملوها معهم من بلادهم، يغلفونها بتعاليهم الفارغ، باحتمائهم بكلمة ثقافة (...) كل شيء مزيف من حولي...". لذلك حين تطلب من "عامر" في أحد مواقف الرواية، الخروج من بيتها وغلق الباب، كأنّها بذلك تغلق الباب دون الجميع، دون العالم كلّه. يلخّص منطق كهذا وعي "مريم" وقوتّها في الوقت ذاته، هذه القوة التي اتصفت بها الشخصيات النسائية في الرواية، عموماً، وذلك على النقيض من الرجال، كما في انموذج "عامر" الخائف، الباحث عن رحِم يتوارى فيها، وهو حتى في علاقته الشائهة مع الفتاة الدنماركية "تينا" يبحث عن الرحم، كنايةً عن الأم، الرحم المتماهية بالأرض البعيدة التي خلّفها وراءه وفارقها قسراً. وها هو يعيش يُتمَين: الأم والأرض.

يُتمه هذا الذي سيسِمه حتى النهاية، وبدل الوعي به لتجاوزه كعامل ضعف وانكفاء جنيني فإنه يبحث عن كل ما يعزز بقاءه موصولاً بالحبل السري للأم. ومردّ ذلك إلى النشأة وظروف الخوف التي أحاطت به. وهو يعكس، بشكل مضخّم، خوف باقي الشخصيات، لا سيما الرجالية، لأنّ الجميع في الأخير هم صنيعة الخوف، وما يعنيه ذلك من خيبة وخسران، على الصعيدين الشخصي والعام. وقد يكون لذلك صلة بالازدواجية التي عرفتها ومارستها هذه الشخصيات في حياة بديلة عن تلك التي كان يجب أن تعيشها أو تطلّعت إليها. مثال ذلك العلاقة الهامدة بين "بسيم" وزوجته، التي عالجها لاحقاً باستعادة علاقته، بعد وفاة زوجته، بـ "سلوى" المطلقة، (والدة مريم)، وهو نوع من تعويض وترميم لماضٍ موءود بين الإثنين. واللافت أنّ زوجة "بسيم" لم تكن تحمل اسماً في الرواية، وكأن في ذلك تأكيد لشبحيتها التي اعتادها الزوج بعد موتها، أيضاً، وحوارها معه ومناقشتها له! إلا ان الزوجة بطبيعتها كانت تمثّل أنموذجاً قوياً وإيجابيا، يفوق بكثير شخصية زوجها. هذا الازدواج ينسحب على عامر، أيضاَ، من خلال تردده بين "تينا" و"مريم"، الذي يشي بعجزه عن إقامة علاقة حب سوية نِدّية مع امرأة، بعيداً من نشدان الأمومة فيها. في صميم هذا المعنى تقول له الممرضة في معسكر اللاجئين: "أنت بحاجة إلى رحم يا صغيري، إلى بطن". وفي موضع آخر، ثمّة ما يؤكد هذا المعنى "ما الجنّة إن لم تكن بطنها؟ داخل بطنها المنتفخ الدافئ، في الأعماق  كالبقعة الخضراء النائية، حين يدعوه نخلها العالي من البعيد ليركض إليها، يدله خرير الماء إلى سواقيها...". إنه يُتم الأرض، ثانيةً. والكاتبة لا تسمي ذلك عبثاً: الرحم/ البطن، فالتسمية هنا مقصودة لذاتها.

وليس في عنوان الرواية الدامغ: "بطنها المأوى" تلويح بهشاشة بطلها "عامر"، أو بقية الشخصيات من الذكور وهامشيتهم، مهما كان لهم من حضور، فحسب، بل تصميم على وسم العالم بوسم الأنوثة، كونها المرجع والمصدر والقوة، كأنّ الكاتبة بذلك تستجيب لنزعة من نسوية متأصلة لدى المؤلف الرافديني في منح صفات الحكمة والقوة للمرأة، كما في ملحمة كلكامش، وعبر أكثر من مثال، أو ما أُغدق، أساساً، في الأساطير العراقية، على "عشتار" من أدوار الحب والحرب. وقد بدت "مريم" طوال الرواية، نوعاً من "عشتار" وهي على مقدار قوتها وجموحها وعصيانها، تتلقى اللعنات. وليس من الصعوبة أن يتمّ، هنا، تأشير الصلة البايلوجية بين الكاتبة وروايتها، لا بمعنى التصنيف الخارجي المعهود كـ "أدب نسوي". بل بمعنى الهوية الجندرية، وهي خصيصة عضوية من خصائص الرواية، تُضاف كدرجة امتياز إليها.

(*) تجدر الإشارة إلى خطأ تاريخي وقعت فيه الرواية بالحديث عن مقتل والدة الملك فيصل الثاني، الملكة "عالية"، ضمن من قُتل من العائلة في انقلاب تموز 1958. والصحيح انها توفيت نتيجة المرض العام 1950. كما هناك ما بدا تكراراً في بعض الجُمل والفقرات، بنصّها، من دون ما يستدعي ذلك، كما في بداية وِحدة "صندوقها الأسود" ـ 116. وبداية ومنتصف وِحدة "لو يزورها الرضا، ويمكث لحظات"ـ 160.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها