الثلاثاء 2021/04/13

آخر تحديث: 14:34 (بيروت)

الحرب، الخنافس، العَود الأبدي

الثلاثاء 2021/04/13
الحرب، الخنافس، العَود الأبدي
آثار الحرب في بيروت (غيتي)
increase حجم الخط decrease

اليوم، 46 عاماً من الحرب. ليست ذكرى اندلاع الحرب اللبنانية. بل علامة استمرارها، بسُرعات مختلفة، بمحطات متنوعة الأحجام والامتدادات والكوارث. كأعياد الميلاد، يعاود هذا التاريخ. كعلامة تقدّم في العُمر، عُمر مديد مُعافى، لولا بضع هنّات استقرار. لا ذكرى تأبينية اليوم. هي ليست 46 عاماً على الحرب، على ولادتها وانقضائها. بل شمعة تُضاف إلى قالب الحلوى الملوث بسمٍّ خبيث وبطيء، مكسور السِّن. لا يقتل، لا يُنهي، ولا يُفضي إلى مقبرة أخيرة، بل يطيل أمد الاحتضار كشكل من أشكال البقاء، عاماً بعد آخر.

في قصيدة فيرجيل الشهيرة، تعود أرواح البشر إلى الأرض، حيث تتجسّد وتعاود التجسّد إلى ما لا نهاية. لكنها، قبل ذلك، تمرُّ، بأمر من "الإله"، على نهر النسيان، لتشرب وتغفل وتمسح حفريات التجربة. تنسى كل ما فعلت واستحقت عليه العقوبة، وتنسى العقوبة نفسها، ليكون قَدَر أصحابها تكرار الأفعال ونتائجها وعذاباتها.

في سنوات السِّلم الركيك، وخلال "إحياء" ذكرى الحرب كل 13 نيسان، تكرّس شعار "تنذكر حتى ما تنعاد" و"كي لا ننسى". لكن اللبنانيين لم يطولوا النسيان وبعض فوائده العلاجية القادرة على ضمان استمرارية الحياة في أقل تقدير، ولا طالوا فوائد الذاكرة والتعلّم. لم يبق لنا سوى تراجيديا فيرجيل، كبشر محكومين بالإعادة.

في الحضارة المصرية القديمة، ترمز خنفساء الرَّوث، إلى التجدد الأبدي وإعادة انبثاق الحياة، مرة بعد مرة، وهي التذكير بالحياة المُنتظرة. الخنفساء التي تقتات على روث الحيوانات، وتجمعه في كُرات لتخزّنه، وتضع فيه بيوضها. اعتقد المصريون انها لا تنوجد إلا بجنس الذَّكَر، وانه يتكاثر بإلقاء سائله المنوي في كُرة رَوث، أي أنه يعيد خلق نفسه من نفسه بلا مساعدة إلا من شراكته مع كينونته المتجددة المتناسخة المنسلّة والمتناسلة من جوهرها. أما كُرة الرَوث، فهي رمز الشمس التي يدحرجها إله الشروق.

رغم المعنى الاحتفالي بالحياة في عُمق الأسطورة الفرعونية، ولدى التفكير بالعَود الأبدي من لدن نيتشه، كمكيال حفر وتنزيل للحرب اللبنانية، لا يخفى التواؤم المذهل بين الخنفساء المقدسة وبين النظام اللبناني بأربابه وقاذوراته، والمصير المُستولد من ذاته باعتباره "حياة" و"مُنتظرة"، أو متوقعة دون سواها من أحكام التاريخ الدائري.

الحرب تجربة موعودة، تبدو الآن أبدية، حتمية. بالأمس دمار القصف وقتلاه ومشرّدوه، واليوم انفجار المرفأ. بالأمس خطف وذبح على حواجز الهوية، واليوم عمليات اغتيال بكواتم الصوت. بالأمس واليوم، تجارة سلاح وإغاثة طائفية وعُملات. بالأمس واليوم، طوابير الأفران ومحطات الوقود ومفقودات السوبرماركت، وفقر يحلّ بلمحة بورصة سوداء. بالأمس واليوم، لا إصلاحات إلا تحايلاً وتشاطراً من أجل مساعدات وتدفق النجدة المالية بالدَّين، هي أيضاً لها دورة عَودها الأبدي، ودورة أخرى للمنظومة الحاكمة، وأخرى للطوائف... والخنافس نفسها، ما زالت، مقدّسة وإلهية، وقد أثبت العِلم أنها ليست رافعة الشمس، بل مصدر الرائحة الكريهة المقيمة منذ عقود.

الحرب اللبنانية، تجربة للتجربة، فن للفن، ومكتوبة ذروتها الصاعدة والهابطة من دون أن تفنى أو تُفني، رغم كل ما ظنّه اللبنانيون من مراكمة خلاصات وإعادة قراءة من النوع الذي يُجرَى بعد أفول ونهاية، وأحياناً مراجعات واعتذارات أقدَم عليها أفراد وقادة، وخاضتها أحزاب. ظننّاها مومياءات الأفلام والأغاني، وأدب القصائد والروايات، حتى تكبّرنا -واهمين- وقلنا إنها باتت تيمة مُملّة ومُجترّة وآن أوان تكريمها بدفنها. من دون أن نفطن إلى أننا كنا نقول ما نقول فيما نسبح في نهر فيرجيل، تدخل مياه النسيان في مَسامنا، تتسرب إلى دمائنا، لكننا لا نشرب ولا نرتوي، كما لا نغفل عن مأساة التكرار الذي وَصَمنا، رغماً عنا، وبمشيئتنا المريضة. وظننّا الحرب انحصرت في ملفات المخطوفين والمفقودين، المهجرين وإعادة الإعمار (والهدم)، في الإعلام والقضاء، في التشريع والسجال السياسي والثقافي، وفي علم النفس وذيول الاكتئاب. لكنها كانت فترات استراحة. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها