الأحد 2021/03/07

آخر تحديث: 07:44 (بيروت)

"أخبار العالم" لبول غرينغراس .. ويسترن لغسل عار أميركا

الأحد 2021/03/07
increase حجم الخط decrease

يبدو كل شيء في "أخبار العالم"*، وكأنه نسخة طبق الأصل، لكن مُحدَّثة، من كلاسيكات الويسترن العظيمة في زمنها. فهو فيلم يحمل جينات "الباحثون" (1956، جون فورد) ويجسر طريقاً إلى عهد جو بايدن. فيلم يعيد كتابة تقاليد هذا النوع (رغم اللقطات المصوّرة بالدرون) ليثبت نفسه فيه ويكشف عن الجانب الآخر من خطابه، المعني بفصام أمّة "عظيمة" تأسست على إبادة السكّان الأصليين. ويسترن معاصر، هنا والآن، يصوّر من خلال بطله الطاهر الروحَ الوليد لأميركا حاضنة متعددة اللغات وهجينة وديمقراطية، تلك التي تسعى وراء الأحلام والقصص اللازمة لبناء (وإخبار) تاريخها، ربما لمحو عارها. وهي أيضاً تلك الأميركا المنحرفة في قيادات سيئة وأوقات مظلمة، أميركا الجريمة والعنف اللاعقلانيين، والعنصرية العمياء، والصدمة والخسارة، والأخبار المزيَّفة، والهويات اليتيمة والممزقة.

في فيلمه الجديد، يختار بول غرينغراس الويسترن نوعاً سينمائياً لقصته الدائرة أحداثها في عام 1870، بعد خمس سنوات من نهاية الحرب الأهلية الأميركية، ليروي حكاية اجتماع غريبين وحيدين وعلاقتهما الصاعدة كمنحنى بياني تنتظمه تعليقات سياسية وثيقة الصلة بالحالة الأميركية الراهنة، تفسّخها وانحطاطها والوعد بنهوضها من جديد. يعود توم هانكس للعب دور نقيب/كابتن (كما فعل سابقاً في فيلم "كابتن فيليبس" للمخرج نفسه)، في مركز قصة تحاول أن تكون ملحمية وحميمة، تنتظمها رحلة خطرة عبر أرضٍ مضطربة تتوَّج بنهاية نبيلة: إعادة فتاة إلى منزلها، أو شيء من هذا القبيل.

يأخذ الفيلم وقته، فالوضع ليس واضحاً منذ البداية. بالمصادفة، يلتقي الكابتن جيفرسون كايل كيد، جوانا الصغيرة (هيلينا زينغيل)، فتاة وحيدة في منتصف طريق مقطوعة وسط تكساس، تخفي نفسها داخل بقايا عربة محطّمة، تجاورها جثة معلَّقة لرجل أسود تبدو عليها آثار قتل وحشية. الفتاة شقراء ولها عينان زرقاوان فاتحتان، لكنها تتحدث لغة قبيلة كيوا الهندية ولا تفهم أي كلمة إنكليزية. أحجية لا يتمكّن كيد من فكّ طلاسمها إلا بفضل الاوراق/الوثائق التي وجدها إلى جانب الفتاة، فيبدأ في فهم ما يمكن أن يكون قد حدث لها: إنها فتاة من عائلة ألمانية، تيتّمت مرتين، حين ذبح الهنود عائلتها واختطفوها حين كانت أصغر من أن تتكلّم، وترعرعت معهم، وهي الآن هاربة بلا هُدى، بعد مجزرة قام بها الجنود البيض بحق الهنود ثم مقتل الرجل الأسود الذي أخذها بعد ذلك.

 

يمتهن كيد وظيفة مثيرة للفضول، واضطراره لرعاية الفتاة يعقّد الأمور. عنوان الفيلم يشير إلى ذلك بوضوح. يسافر الرجل من بلدة إلى أخرى ليقرأ لأهل الأطراف أخباراً يراها مهمة من صحف الأمّة الوليدة، حول "التغييرات الكبيرة التي تحدث هناك"، بعضها مهم (وباء التهاب السحايا، على سبيل المثال) الى جانب قصص فولكلورية وإنسانية قصيرة للترفيه عن قرويين بحاجة لإلهاء مريح بعد سنوات من القتال والخسارة والمعاناة. يعرف الرجل ذلك لأنه قاتل أيضاً في الحرب الأهلية، ورغم مُداراته، يمكن الشعور بمعاناته الكبيرة إثر هذا الفصل الدموي من حياته. ومثلما في عرض متجوّل – أو جريدة إذاعية متنقلة - يدفع له المستمعون بضع سنتات لدخول خيمته والاستماع إلى أخبار العالم. ينجو كيد، مثلما تحاول أن تفعل الصحف المحترمة في زماننا.

لا يستطيع كيد التخلص من جوانا، التي تحمل أيضاً اسمها الهندي، سيكادا، وتغمغم بالهندية طوال الوقت وبالألمانية أحياناً، دون قول شيء مفهوم في كل الأوقات. ولأنه نبيل وطيّب مثل الخبز (وهي سمة مشتركة لشخصيات هانكس)، يوافق على اصطحاب جوانا في رحلة طويلة (400 ميل تقريباً) للمّ شملها مع أقاربها بالقرب من سان أنطونيو جنوباً. الرحلة، تضطره لإضافة المزيد من توقفات قراءة الصحف لتغطية نفقاتها، وبالطبع، ستكون محفوفة بالمخاطر. على طول الطريق، سيكون عليه مغالبة عدد من العوائق والمصاعب، بعضها طبيعي وإجرائي، لكن معظمها بشري وخطير، بما في ذلك ثلاثة من الأوغاد يريدون شقّ طريقهم مع جوانا (بالاغتصاب أو بالخطف)، وزعيم/بلطجي شرير (توماس فرانسيس مورفي)، يفتخر بالقضاء على الهنود والمكسيكيين والسود في المنطقة.

ومثلما في أي محاولة لبثّ الحياة في نوع فيلمي ترك وراءه أيام مجده، يحمل الفيلم في حمضه النووي بضعة كروموسومات من كلاسيكيات الويسترن، "شجاعة حقيقية" (1969، هنري هاثواي) مثلما من أفلام لأنتوني مان وبَد بوتيكر، بالإضافة طبعاً لفيلم "الباحثون" لجون فورد. بعبارة أخرى، لا توجد هنا محاولة لانتهاك تقاليد هذا النوع، كما فعل بعض صانعي الأفلام في السبعينيات. لكنه أيضاً ويسترن بلا استعارات ذكورية قديمة، ولا بطولات عفا عليها الزمن، حتى تسلسل الأكشن اليتيم الذي يتخلّله يأتي منزوع الإثارة إلى حدّ كبير. المثير حقاً في الفيلم هو كيف يموضع قصّته داخل زمن ومكان في التاريخ الأميركي حيث أدّى الانقسام الأيديولوجي، نتيجة الحرب الأهلية، إلى استياء وحقد على نطاق واسع بين المهزومين. لن يكون من غير المعقول مقارنة أهالي تكساس في الفيلم العازمين على العنف، بمؤيدي ترامب اليمينيين الذين اقتحموا مبنى الكابيتول في مطلع العام الجديد.

هذه الدراما الويسترنية تحدّد مزاج قصّتها ليتلاءم تماماً مع بداية عهد جو بايدن: قارئ صحف وفتاة ذئبة، يعبران بلداً ممزقاً بفعل الاضطرابات السياسية، وبطريقة ما يبدو أن كل شيء يعود إلى مساره الصحيح. بالطبع، اليوتوبيا هشة، وحتى بطل الفيلم الطيّب لا سبيل أمامه للنجاة إلا بحمل السلاح في وقت ما. يتمركز في قلب الفيلم شخصية مثل كيد، الذي هو في جلد توم هانكس، نبيل وإنساني وكريم كما يتخيّل المرء، في مواجهة عالم عنيف وأناني وحتى إجرامي، تبدو فيه السيادة للأقوياء "الفتوات" وقُطّاع الطرق فيما يغرق الناس في الخوف والفقر. غرينغراس ولوك ديفيس، كاتبا السيناريو، (وبالتأكيد الرواية التي يستند إليها الفيلم، بقلم الكاتبة بوليت جيلس) يريان كيد كشخصية مستنيرة ومسؤولة تقاتل معارك تبدو خاسرة غالباً في مواجهة قوى عنصرية أو مسيئة أو تعتمد على الجهالة كشكل من أشكال الرقابة الاجتماعية. أي مقارنة مع الوقت الحاضر - والاحتكاكات السياسية بين الديمقراطيين والجمهوريين في عهد ترامب - ليست من قبيل الصدفة.

ورغم "ويسترنيته"، ومناظره الطبيعية الفاتنة (كاميرا داريوس فولسكي) والتي تشمل بطليه الضائعين وسط مرئيات طبيعية عملاقة وخطيرة، إلا أن تركيز غرينغراس ينصب تدريجياً على تفصيل علاقة الحاجة المتبادلة التي تتطور بين كيد وجوانا. فنظراً للاحتمال الضعيف لتواصلهما عن طريق الحوار، بسبب مشاكل اللغة، يتواصل الاثنان عبر حلقات من الشجاعة أو التضامن توضّح لكليهما اشتراكهما في أكثر مما يفترضان مبدئياً وأنهما بحاجة إلى بعضهما البعض. أولئك الذين شاهدوا مؤخراً سلسلة "ذا مندلوريان" سيلاحظون أيضاً العديد من أوجه التشابه بين القصتين.

وبهذا المعنى، يعاكس "أخبار العالم" لعبة/نهج فيلم جون فورد إياه، قالباً الأدوار والمآلات. في فيلم فورد، يذهب البطل، إيثان إدواردز (جون واين)، للبحث عن فتاة اختطفتها قبيلة هندية لإعادتها إلى عائلتها. هناك، يعمل إيثان كبقية من الماضي، رجل عنيف لم يستطع الانضمام إلى العالم الجديد/الولايات المتحدة التي كانت قد بدأت في التحوّل إلى مجتمع أكثر "تحضراً"، وعندما أتمّ مهمته، قرّرَ مغادرة هذا العالم. هنا، الرحلة متشابهة، لكن النتيجة مختلفة. يمثّل كايل كيد هذا "العالم الجديد" الذي كان في بدء بزوغه، وبالتالي تختلف وظيفته/مهمته في القصة. و"رجولته"، إذا صح التعبير، تتماشى مع زماننا أكثر مما يمكن للمرء تخيُّله عما لا بدّ أنه كان متوقعاً في أعماق تكساس عام 1870.

من جانبه، يغيّر غرينغراس أسلوبه الذي اشتهر به طامحاً إلى إنجاز ويسترن كلاسيكي رزين. ما كان يوماً حركةً مستمرة للكاميرا ومونتاجاً سريع الخطى، يُستبدل بوتيرة أكثر استرخاء، ومظهر أكثر رقة. طوال 110 دقائق، يضع ثلاثة أو أربعة مشاهد من الأكشن و/أو التشويق التي تسمح له بتكثيف الدراما، لكنه يفعل ذلك بطريقة أكثر تقليدية من، على سبيل المثال، ملحمة "جيسون بورن" المحمومة. حتى العنف، الذي لا مفرّ منه في هذا النوع، يتم التعامل معه بأقصى قدر من التكتّم. يجلب هانكس ملاءته البطولية المعتادة إلى شخصية كيد دون أي أثر للعصاب. لكن الأداء الأساسي لقوة الفيلم وعاطفيته هو ما تقدمه الصغيرة هيلينا زينغل (التي رأينا بواكيرها المدهشة من قبل في فيلم "محطّمة النظام"). بنظرة في مكان ما بين الخوف وعدم الثقة، مع عدم وجود حوار تقريباً، تتخطّى شخصية جوانا كونها مجرد أداة سيناريو لتغدو إنساناً كامل التأثير، عانى نزوحاً عاطفياً منذ الطفولة المبكرة.

إنه فيلم أكثر إمتاعاً وفعالية يملك في توم هانكس، أفضل وأسوأ أسلحته في الوقت ذاته. الأول واضح: قلة من الممثلين يمتلكون جاذبيته وموهبته التمثيلية لدعم القصة بلا جهد تقريباً وبأقل قدر من الحوار. الثاني أكثر تعقيداً، فشخصيته بلا انحناءات يؤدّيها ممثل يجسّد النبل في كل مشهد. وهذه المثالية التي يصعب العثور على شبيهها في الحياة الواقعية، تصبح أكثر إشكالية في شخصية من المفترض أن تكون معقدة لتصلح لإثارة الاهتمام، خاصة في فيلم ويسترن. في النهاية، ربما تكون هي، جوانا/هيلينا، السلاح السري الاستثنائي والمنيع لهذا الفيلم.

 

(*) يُعرض حالياً في نتفليكس.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها