سبق أن خابت رهانات اللبنانيين على المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، والتي لم تستطع المجاهرة بالحقيقة الكاملة، ناهيك عن تنفيذ موجبات العدالة. لكن المحكمة كانت جسماً أممياً هائلاً، مثقلاً بحسابات وسياسات وتشابكات قانونية معقدة، وسعى هذا الجسم خلف وحش ضخم كثير المجسّات والقواطع. لكننا اليوم أمام شيء مختلف. قد نسميها عَدالات صغيرة تتحقق متناثرة. كل منها قطعة في "بازل" لا بد للبنانيين الخالعين لهذه المافيا-السلطة، من اجتراح خطة لجمعها ورصفها بكل ما أوتوا من مثابرة وكفاءة، إذ قد تولّف صورة خلاص ما، أو مقوماته في أقل تقدير.
الفرحة لم تتم، لكن التفاؤل يبقى قائماً، والتعويل على ما تبقى في لبنان من بعض الصحافة المستقلة، وعلى قضاء محترم في دول متقدمة. آليتان أساسيتان من آليات الديموقراطية، وفي باطنها الشفافية والمساءلة والمحاسبة. وهما أيضاً وجهان، حميدان هذه المرة، للعولمة. إشارتان إلى انتماء لبناني بديل، إذا جاز التعبير، إلى العالم. فالملف الاستقصائي الأساس في قضية حاكم مصرف لبنان، في سويسرا، هو، من ضمن أشياء أخرى، نتيجة عمل استقصائي جدّي قام به صحافيو موقع "درج" في بيروت بالتعاون مع "مشروع تتبع الجريمة المنظمة والفساد العابر للحدود" (OCCRP). والقضاء الدولي، فرادى (وهذا أفضل)، يتصدى لفساد لبناني حقق العالمية المخجلة، بعدما فاضَ عن كأسه المحلّي، إذ طوَّع، مع طبقة سياسية وعصابة حاكمة مكتملة الأركان، وبشتى أنواع الضغوط والرشى، المؤسسات القضائية والدستورية والإدارية والإعلامية التي كانت، ربما، ذات يوم، قادرة على ردعه. وفقد معظم هذه المؤسسات ثقة الناس، وما عاد يعوّل عليها إلا المخبولون أو المستفيدون من استعصائها أو بائعو الشعارات الجوفاء.
لعلها مفارقة مذهلة، أن يعود اللبنانيون، كشعبٍ وكقضية انهيارٍ الآن، إلى العالم، من باب فساد نظامهم المستأثر بالسلطة، وأزمتهم الكبرى الناتجة عن أكبر جريمة سطو في التاريخ الحديث. لكن الوجه الآخر للعودة هذه، مدني وقِيَمي واستراتيجي. إنها العولمة التي أراد "حزب الله" وحلفاؤه "حمايتنا" (أي حماية أنفسهم) منها، منذ أن استتب زمام البلد في أيديهم، وتواطأت معهم في ذلك بقية أركان السلطة في مقابل تسهيل المنهَبَة العامة التي أوصلتنا إلى الدرك الذي نرزح فيه. أرادوا عزلنا عن رحاب منيرة من الكوكب، حيث الديموقراطية مشروع محقق وخاضع على الدوام، وبأدواته، لإعادة التقييم والتشذيب وأحياناً إعادة الصياغة، رغم الشوائب. أرادونا في خنادق دول مارقة وفاشلة، مُستحوَذ عليها بالاستبداد والفساد وأجهزة القمع، بإسم "المقاومة" و"مقارعة الاستعمار والامبريالية"، مع رشّات متفرقة من خطاب مظلومية عالمثالثية مفرغ من سياقاته وزمنه ومعانيه.
وإذا كان الاعتقاد السائد، وربما الأرجح راهناً، أن الغرب بغنى عن أن يشغل باله الآن بلبنان فيما تكافح أميركا وأوروبا شياطينها الداخلية الداهمة، من جائحة كورونا وتبعاتها الصحية والاقتصادية، إلى مآزقها وانقساماتها السياسية و"إرهابها المحلي"... وأن الغرب، إن نظر إلينا، فبعَين التوجس من التطرف وتدفق المهاجرين/اللاجئين، وبدرجة أقل لمطامع استراتيجية قد لا يُستهان بها، لكنها ليست أولوية، ولا تخرج له "زِيراً" من بئر أزمات أكثر إلحاحاً... فإن تلك الميزات المتبقية من سيستم العولمة ربما تكون الفرصة الأخيرة للبنانيين، شرط إجادة استخدامها، ومن دون أن تكون الأداة الوحيدة للمقاومة الحقيقية ضد الكارتيل الذي ما زال يحتجزنا جميعاً كرهينة.. ليطالب الغرب نفسه بفديتها.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها