الثلاثاء 2021/03/30

آخر تحديث: 19:48 (بيروت)

فلنتحدث عن الفدرالية

الثلاثاء 2021/03/30
فلنتحدث عن الفدرالية
من تظاهرة على الطريق المؤدية إلى القصر الجمهوري في بعبدا (غيتي)
increase حجم الخط decrease
- "إن كان لا بد من الفدرالية في لبنان، أعطونا رأس بيروت، وخذوا البقية، إفعلوا بها ما شئتم".

- "لماذا ترفض قيادات المسلمين فدرَلة لبنان؟.. لأنها تخشى، إن طُبّقت، أن يهاجر المسلمون إلى مناطق المسيحيين، ولا تجد من تحكمه".

طُرفتان معروفتان للعديد من اللبنانيين، أعادهما إلى الذاكرة انتشارُ الهاشتاغات المطالبة بنظام فدرالي وحيادي لبناني، في وسائل التواصل الاجتماعي، خلال الأيام القليلة الماضية. نضع جانباً ذاكرة الحرب الأهلية والصراعات الدامية قبلها وبعدها، والتابوهات الكثيرة المحيطة بطرح لطالما وُصم بالانعزالية والتقسيم وخيانة العروبة/اليسار/فلسطين، وتُهم معاداة الإسلام أو الالتفاف على تحالف أقليات المشرق، والتي أفضت كلها إلى شتى أنواع الصدامات وإعادات تأسيس "الكيان". نقول أنه لا بد من التخلص، مرة واحدة ونهائية، من إلصاق الفكرة في حد ذاتها بالمؤامرة والشرور الاستعمارية، لنصل إلى أنها نواة نقاش سياسي وسيادي مشروع وصحّي خاضته شعوب كثيرة حول العالم. وبعد، فإن الطُرفتين أعلاه تحملان دلالات ثقافية وعملانية لبنانية بدا الخائضون في ترويج الهاشتاغات جاهلين بها، أو غافلين عنها في أحسن الأحوال.

فالمزحتان تقولان، بالحد الأدنى، إن النقاء الطائفي في مساحة جغرافية معينة لا يعني نقاء الطموحات والتصورات عن الحياة المرغوبة لدى المجموعة البشرية القاطنة في هذا الكانتون المسيحي أو تلك الولاية المسلمة. في منطقة رأس بيروت مثلاً، يشكل التنوع الطائفي -رغم الغلبة العددية تاريخياً للمسلمين- إحدى سماتها الأساسية، إضافة إلى لَبرلَة نسبية ومستوى مقبول من الحريات، وحيوية النقاش العام في محيط جامعات ومدارس صف أول، ومطبخ صحافي وفكري وفني، ومزاج عام متأثر بقيم الطبقة الوسطى، مُطعَّم بأمزجة طبقية ومناطقية مختلفة بحُكم أنها أحد أبرز المراكز التجارية والثقافية. وأبناء هذه المنطقة، كما المعتادين على ارتيادها (مع متغيرات الفسيفساء الاجتماعي من خمسينات القرن العشرين حتى اليوم)، يريدون حمايتها ويكتفون بها "وطناً" يشبههم. هنا لسان حال مجموعة بشرية تعددية، ومنسجمة نوعاً ما، من حيث رؤيتها ليومياتها وأولوياتها. وفوق ذلك، فالمسلمون، بحسب النكتتين، ليسوا جميعاً محافظين أو إسلاميين في السياسة والدين، ولا كل المسيحيين المنفتحين راغبين في العيش وحدهم. 

ولئن غضضنا الطرف، لصالح الجدل، عن كافة المعوقات المنطقية والعقلانية والتي ما زالت تحول دون أخذ اقتراح الفدرلة الحقيقية على محمل الجد، لا سيما من حيث الديموغرافيا والجغرافيا المشجعة لمعابر التهريب أكثر بكثير من نُظُم تبادلية متعافية، إضافة إلى تحدي الاستدامة المالية والاقتصادية والمصائب المحيقة بالإقليم برمته... وإن تغاضينا عن الالتباسات العميقة لدى المغردين المتحمسين الذين واظبوا على الخلط بين مفاهيم الفدرالية والكونفدرالية والحياد، تبقى أسئلة أساسية: هل تُطرح الفدرلة اليوم على أساس طائفي فقط؟ أم على أساس برنامج ما، جامع لكتلة من اللبنانيون يفترض أنهم يريدون العيش سوية دون الآخرين؟

فإن كان الأمر يقتصر على القيد الطائفي، وإضافة إلى المقتطف من أرشيف النوادر أعلاه، يكفي أن نستذكر أحوال المنطقة الشرقية (المسيحية) واقتتالاتها خلال الحرب الأهلية، وكذلك بيروت الغربية (سنّة وشيعة ودروز تحت مسمّى مسلمين)، وجنوب لبنان (شيعة)، لنفهم أن الطّهر الطائفي ليس ضمانة لشيء. أما إذا كانت على أساس برنامج أو رؤية، فما الذي تستطيعه القيادات الطائفية، حين يرتاح بعضها من بعض و"يتفدرل"، ولا تستطيعه الآن؟ قد يُسمع هنا صوت خجول عن "نفضة" في رأس الهرم، أو بالأحرى الأهرام الجاري تشييدها فدرالية... فالفدرلة سِحر إذن! وما الذي في الفدرلة، ويساهم في إطاحة هؤلاء الزعماء، وإبراز قيادات جديدة تلبي الطموحات والرؤى المشتركة في كل "ولاية"، وليس موجوداً بلا فدرلة؟ وهل يجوز التخوف من أن تفضي الفدرلة، في بلد متشظٍّ ومتخلف سياسياً، مثل لبنان، إلى مزيد من التصلب/الولاء للطائفة المجسدة في زعيم؟ أم أن الخوف هو حصراً من "الآخر"؟ ومَن هو هذا الآخر بالضبط؟ الحزب المنافس؟ أم الطائفة الخصم؟ أو الطائفة الحليفة مؤقتاً؟

فلنقُل تجاوزاً، رغم طاسة التعريفات الضائعة، أن المقصود بالحملة الطازجة، هو الفدرالية، لا الكونفدرالية، استناداً إلى أن غالبية التغريدات تحدثت بشكل أو بآخر عن "عيش أفضل معاً"، و"وطن واحد" لا حواجز بين "ولاياته"، وكل "ساكنيه" يحملون الجنسية اللبنانية. معنى ذلك أن شيئاً من الدولة المركزية الموحدة سيبقى، لا سيما السلطات المنوطة بالسياسات الخارجية، والدفاعية (الجيش)، والنقدية. هنا، يُدخل دعاة الفدرلة مسألة الحياد كصمام أمان لعدم تفجّر التباينات اللبنانية. وهنا أيضاً، تبرز مشكلتان على الأقل:

أولاً، إن كانت الفدرلة المحققة على أساس طائفي، فكيف تمنع على أي من ولايات الوطن الواحد التماهي طائفياً مع مدينة أو دولة خارج "الاتحاد"، وبالتالي نسف مبدأ الحياد الذي سلّمنا جدلاً بأنه ممكن؟ ثانياً، إذا فرحت كانتونات مثلاً، بإنجاز إقرار الزواج المدني ضمن نطاقها، أو تأمين الطاقة المحلية النظيفة، أو الجباية وضمانات الصحة والشيخوخة، فماذا في المقابل، عن السلطة الدفاعية المركزية التي ستصطدم، والجيش الوطني الموحد، بمليشيات وأسلحة تسيرها الإيديولوجيا التي تجانَست حولها مجموعة من السكان وأسست وفقها هذا "الكانتون" أو تلك "الولاية"؟ والأهم، وفي ظل الأزمة المالية المستفحلة الآن، فإن التفكير في الليرة والدولار، مصرف لبنان والمصارف التجارية والودائع المنهوبة، يجعل القصة كلها أشبه بالمثل الشعبي عن المواطن الذي شُنِق فوق حُفرته.

هكذا نعود إلى معضلة العلاقة مع الدولة، وحكم القانون والمؤسسات، سواء كانت دولة مركزية أو فدرالية، ويبرز سؤال "الحكم الرشيد" الذي روّجت لتحققه تغريدات الهاشتاغ (فاعلية إدارية، ديموقراطية أكثر سلاسة، مساواة جندرية كاملة، الخ..): هل ستصبح الانتخابات والتعيينات شفافة ونزيهة ومعتمدة على الكفاءة، بعد تحييد التنافس والتحاصص الطائفيَين؟ هل ستتغير العلاقة مع السلطة والزعيم في المحلي الفدرالي، عما هي في المركزي الطائفي؟ هل تعالج الفدرلةُ الفساد الذي يبدو وحده العابر للطوائف والمناطق؟ هذا يعني أن ثقافة ومنظومة قانونية كاملة ستتغير، وهذا ما لا يُقرأ كنتيجة حتمية في كاتالوغ الفدرلة، حسب علمنا.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها