الأربعاء 2021/03/03

آخر تحديث: 12:51 (بيروت)

"نومادلاند".. أرض ميعاد مزيّفة

الأربعاء 2021/03/03
increase حجم الخط decrease
في خطابها الوجيز عقب فوز فيلمها "نومادلاند"(*) بجائزة "غلولدن غلوب لأفضل فيلم"، الإثنين الماضي، قالت السينمائية الأميركية الصينية، كلوي تشاو (1982)، إن "الفيلم في جوهره هو رحلة حج من خلال الحزن والشفاء.. لكلّ من مرَّ بهذه الرحلة الصعبة والجميلة في مرحلة ما من حياته، هذا الفيلم لكم". هذه الكلمات الرقيقة تلخّص كثيراً حال الفيلم، وما يمكن استخلاصه منه، وحتى طريقة التعاطي معه. 

في ثالث أفلامها الروائية الطويلة، تواصل كلوي تشاو حديثها عن الأساطير الأميركية، الغربي منها تحديداً. في فيلمها الأول، "أغانٍ علّمني إياها أخي" (2015) تعاملت مع الحالة البائسة المعاصرة للهنود الأميركيين، وفي ثاني أفلامها، "الراكب" (2017)، انغمست في حياة رعاة البقر ومسابقات الروديو، مختارة ان يكون بطل الفيلم راعي بقر لم يعد بمقدوره امتطاء حصانه، وفي "نومادلاند" تذهب البطولة لامرأة (فرانسيس مكدورماند) فقدت كلّ ما حدّد حياتها في السابق، لتعيش في شاحنتها، بعيداً من مظاهر الحضارة الحديثة، وتنغمس في البرية والطبيعة، من دون أن تستطيع الفهم ما إذا كان هذا الاختيار قد أُملي عليها بذريعة الرغبة في العزلة أم كنتيجة للظروف الاقتصادية وانهيار السوق الأميركي في أعقاب الأزمة العالمية في 2008. وبذلك، تنظم الأفلام الثلاثة، بطريقة ما، ثلاثية فيلمية غير رسمية حول الأساطير المؤسِسة للولايات المتحدة وتفكّكها الحتمي، وراهن انحلالها الجلي، وإن كان ذلك يأتي في محاولة - يائسة أحياناً – لإبقاء تلك الأساطير على قيد الحياة من جانب أبطالها المختارين، الذين، مثل المخرجة، رغم كل شيء، يؤمنون بفكرة أميركية تماماً حول وعد الحرية وعيش المرء لحياته كما يريد.

لا تفتقر تشاو إلى المنطقية، وهي أيضاً قادرة على إيجاد قصة مثيرة للاهتمام وموقع أحداث لافت في كل مرة. ما يعوزها فعلاً هو متعاونين موثوقين، وأولاً وقبل كل شيء كاتب سيناريو ومونتير (قامت بمونتاج وكتابة سيناريو الفيلم بنفسها)، يمكن أن تتواصل معهم وتهيّئ قصصها بشكل أفضل، بدلاً من الانتهاء بها إلى التيه في ذهابٍ وإياب ملتبس، بلا بوصلة حقيقية. من هذا المنظور، يمتلك "نومادلاند" فصلاً أخيراً مُمّلاً وخاملاً من فرط تكراره وضياعه في المشهديات الطبيعية الشاسعة، بما يمثّل إهداراً غير مفهوم لما استثمره في بدايته المثالية عن عالم "سكان المقطورات" ومنبوذي الحلم الأميركي. التحوّل إلى تصوير الفضاءات والأشجار والفراشات وثور البيسون، يبدو أكثر ملاءمة لقناة "ديسكفري"، حيث لا مكان لبقية الفيلم بالطبع. حتى يبدو الفيلم في نهايته، كعمل شبه وثائقي عن الأميركيين البيض العاطلين عن العمل، الذين تعلّق المخرجة حول أعناقهم إكليلاً من وعود الحرية واليوتوبيا المزيّفة في تصريحاتها العامة، تماشياً مع أيديولوجية الحلم الأميركي.


هكذا، تعود أسطورة الروّاد المستكشفين الأوائل - كما تقول أخت البطلة، في مرحلة متأخرة من الفيلم – مثلما تعود الاستعارات الكلاسيكية عن حياة الرُحَّل الأميركيين المعاصرين، ممن يعيشون في بيوتٍ متنقلة وحياتهم على/وفي الطريق دائماً وأبداً. البداوة والترحال المفروضان على بعض الأميركيين، كما يخبرنا الفيلم في بدايته، أملَتهما تداعيات الأزمة الاقتصادية، كما حدث في وقت الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن العشرين، وانتهى الأمر بأفراد وعائلات مُشرَّدة تعيش في بيوت/مقطورات بعدما أسقطهم "السيستم" من حساباته. لكن، بدلاً من التفكير في هذا الموضوع، حيث كان يمكن على سبيل المثال أن تتّخذ نموذجاً مثلما في ملحمة سينمائية من طراز "عناقيد الغضب" (1940) لجون فورد عن رواية لجون شتاينبك، تلجأ تشاو إلى الحياة الداخلية لبطلتها، وتخبرنا أنه في الواقع، إذا أرادت، كان بإمكانها الحصول على منزل ثابت، لكنها لا تجد في داخلها رغبة بذلك، بسبب مشاعر وروابط فقدتها ولن تعود أبداً. تعيش على الذكرى، وتدفع شبح الموت بخوض التجارب والتخفّف من الأحمال، على طريقة الرهبان الفرنسيسكان.

وفي "نومادلاند"، نفقد أيضاً الوجود المادي/الجسدي الذي كان الميزة الأكثر إثارة للاهتمام في فيلمها السابق. فمع الحفاظ على كتابة تتنقل بين الوثائقي والروائي، وهي سمة تميّز كل أفلام المخرجة، لدرجة أن الممثلة فرانسيس مكدورماند تتناغم جيداً مع الممثلين المساعدين (وأغلبهم رُحَّل حقيقيون يعيشون في عرباتهم)؛ تكسر تشاو التوازن هذه المرة، بعد افتتاحية ممتازة، لصالح روايتها الخاصة لموضوعها المأخوذ في الأصل عن كتاب لجيسيكا برودر من العام 2017 بعنوان "نومادلاند: البقاء على قيد الحياة في أميركا في القرن الـ21"، ووضع خطابات "مُدخَّنة" في أفواه الشخصيات، تصبح أقل تصديقاً مع تقدُّم الفيلم. مثلاً، في أحد المشاهد المزعجة، ثمة مُعلّم أبيض عجوز بلحية بيضاء يتحدث عن "استبداد الدولار"، وسطوة السوق، ثم يقول "إن تيتانيك تغرق بالفعل"، ويريد توفير "أكبر عدد ممكن من قوارب النجاة".

وبإهمال الطبيعة الجسدية، يغوص الفيلم تائهاً في بحر رمال رمزي: ديناصورات (مستنسخة في ساحة صحراوية، ثم يتكرر ذكرها مرات عديدة)، أفعى ضخمة، تمساح مهيب، مناظر طبيعية لامتناهية للأراضي الوعرة، أشجار أقدم عُمراً من الولايات المتحدة، بحر هائج وصخور، وأحجار أزلية نرى العالم من فجواتها؛ كل شيء يتراكم ويتكرر كما في بطاقات بريدية لا تتحول أبداً إلى تسلسلات/متواليات يمكن التشييد عليها، يتبع بعضها بعضاً بلا استمرارية سردية - ولكن رمزية فقط – لتقول أشياء عن الخلود والطبيعة الشاسعة، من ناحية، وأشياء عن الشيخوخة وضآلة الإنسان من ناحية أخرى.

والنتيجة؟ خطاب إنساني على صورة جميلة داخل قصة ضعيفة، بلا حبكة، بلا دراما، "آرتي بوفيرا" لا يطوّر فَنّ الفيلم بل يأخذه إلى الوراء. والمؤسف أن يأتي ذلك من سينمائية واعدة حقّقت، من قبل، إحدى التحف السينمائية الصغيرة في القرن الجديد، لتتبعه بفيلم أشبه ما يكون بماء الورد، يتدفق بعيداً من دون ترك أي أثر، في حين أن ممكنات محتملة لصناعة فيلم أجمل وأفضل كانت حاضرة على الدوام في تفاصيل قصة البطلة، والصعوبات الحقيقية التي كان من الممكن أن تواجهها لم تؤخذ في الاعتبار أبداً. لم تنجح كلوي تشاو في تحقيق قفزة نوعية، على الأقل إخراجياً، وبدلاً من ذلك حققت قفزة كبيرة على المستوى الدولي، بالتتويج بجوائز مهمة. في المقابل، وقعت تشاو في الفخّ المألوف لسينماها حتى الآن: كتابة هشّة وصعوبة تشريح موضوعها، مع انسياق مزعج لـ"شَعْرنة" صورها على طريقة تيرانس ماليك.

إذا كان فيلم "الراكب" مثيراً للإعجاب، فهذا أيضاً لأننا كنا نخشى على حياة البطل. هنا، على الرغم من أنها تعيش بطريقة محفوفة بالمخاطر، إلا أن البطلة لا تبدو أبداً في خطر. لذلك يبدو "نومادلاند" فرصة عظيمة ضائعة، فكرة رائعة ألقيت بعيداً، حيث حتى إمكانية التصوير في مستودع "أمازون"، عملاق الشحن والتجارة، لم تحرّك ساكناً في داخل المخرجة، المنسحبة باهتمامها إلى دواخل بطلتها أكتر من اهتمامها بتثمير الإمكانات التي تحت يدها.

(*) فاز الفيلم مؤخراً بجائزة غلودن غلوب لأفضل فيلم وأفضل إخراج. في أيلول سبتمبر الماضي، بدأ مسار التتويج، بفوزه بجائزة الأسد الذهب في "مهرجان البندقية السينمائي"، لتصبح أول مخرجة تفوز بهذه الجائزة منذ حصول صوفيا كوبولا عليها في العام 2010. كما فاز الفيلم بجائزة اختيار الجمهور في "مهرجان تورونتو السينمائي". الآن، تبدو حظوظه وفيرة للتتويج الكبير في ختام موسم الجوائز بجائزة أوسكار التي لم يعلن بعد عن ترشيحاتها الرسمية.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها