الأحد 2021/03/28

آخر تحديث: 09:46 (بيروت)

"جولة أخرى" لتوماس فنتربيرغ.. دع القلق وابدأ الحياة

الأحد 2021/03/28
increase حجم الخط decrease

الدنمارك بلد جميل وأهله يحبّون الحياة ويستمتعون بها قدر ما أمكنهم. حتى وقت قصير كان شائعاً توزيع البيرة الباردة أثناء اجتماعات الآباء في رياض الأطفال وأثناء استراحة الغداء في غرفة المعلمين. في الإفطار أيضاً، تحضر البيرة او كأس صغيرة من الخمر لافتتاح اليوم. ميثيولوجياً، الدنمارك هي عالم الحواف المستديرة، وهي ثقافة نموذجية للكرم حيث تتوارى المؤشرات الأخلاقية بسرعة، فطالما أنك لا تزعج الآخرين، يمكنك أن تكون ما تريد أن تكونه.

ورغم أن الحرية الفردية في ذلك البلد الاسكندنافي لا تزال قوية كأيديولوجية فولكورية دنماركية، إلا أن الدولة اضطرت إلى التأقلم مع طريقة أكثر "حداثة" لإدارة أفراح ومباهج الحياة اليومية المتاحة. لم يعد المسعى الهَوَسي بالإنجاز وأيام العمل الشاقة مقصوراً على برجوازية الرأسمالية في اليابان والولايات المتحدة، لذا ينبغي الاستمتاع بالحياة في/على أجزاء/رشفات. ولكن إذا كان الواقع المستجد لا يتطابق بالضرورة مع فكرة ما يعنيه أن تكون دنماركياً، فمن المثير للإعجاب كيف تمكّنت الدولة كنوع من عوامل الجذب السياحي من الحفاظ على صورتها/هويتها، أمام زوّار أجانب ينسون سعر الصرف سريعاً في خضم اختبارهم التجربة الدنماركية ومحاولة التخفّف من هموم الحياة ومشاغلها.

"جولة أخرى"، في جوهره، تسوية واحتضان لذلك الدنماركي الخالي من الهموم. نلتقي بأربعة زملاء مدرسين في مدرسة ثانوية أثناء احتفالهم بعيد الميلاد الأربعين لأحدهم في أحد المطاعم الرائعة العديدة في البلاد، مع قائمة تذوق ومشروبات مصاحبة، يقدمها نادل لا يكتفي بصب الماء فحسب، بل يشاركهم معرفته. سيقود النبيذ الفوار الضيوف إلى حقول الذرة الفرنسية، حين يغمضون أعينهم، وستعمل الفودكا الباردة على تدفئتهم من القلب، فيما تقوم الشمبانيا بالباقي. حول الطاولات نرى أشخاصاً يلهمون حياتهم بكأس مملوءة في متناول أيديهم.

لكن الأمور ليست على ما يرام. وأزمة منتصف العمر تغيّم سحاباتها على رؤوس الرفاق الأربعة. لذا يشرعون في تجربة منطلقها علم الاجتماع وعلم النفس والفلسفة. بناءً على أطروحات الطبيب النفسي النرويجي فين سكاردرود، الذي جادل بأن الإنسان يولد بنقص في الكحول بنسبة 0.05٪ في دمه؛ تقوم هذه المجموعة من الرجال المبتلين بأزمة منتصف عمر وقعت عليهم مثل انهيار جليدي، بالانغماس في الشرب، ليس لأغراض عدمية كما في "الوليمة الكبرى" (1973، ماركو فيريري)، بل كجزء من دراسة نظرية تؤكد أن توازن النظم الحيوية وما يترتب عليها من فوائد مهنية وعاطفية يأتي نتيجة استهلاك يومي لكمية معينة من الكحول. هذه هي حبكة الفيلم الذي يأخذ قوس دراما كحولية كوميدية-تراجيدية تسلّط الضوء على أوجه القصور في المجتمع الدنماركي (وبالتالي في الغرب): الوحدة أو العزلة أو الفردية أو غياب التعاطف، تتخفّى بذكاء وراء تقلبات الرباعي المخمور بقيادة الإمبراطور مادس ميكلسن، في دور يؤكّده كأفضل ممثل أوروبي في جيله.

سورين كيركيغارد

لا يتطلب الأمر أستاذاً في علم النفس ليعرف أن هذه التجربة الصغيرة سيكون لها على الأرجح تداعيات وخيمة. بعد فترة وجيزة، قرر الرجال تجاوز حاجز الـ 0.05، وتحويل اللعبة إلى تجربة بدوام كامل. الوظائف والزيجات على المحكّ. لكن بقدر ما يمكن قوله حول "رسالة" الفيلم التحذيرية بشان الإفراط في تناول الكحول، فإن "جولة أخرى" بالتأكيد، وقبل أي شيء، لا يتضمّن بياناً وعظياً أو خطاباً أبوياً ضد الشرب بحد ذاته. في الواقع، الحكم أكثر ضبابية من ذلك بكثير.

 فنتربيرغ وشريكه المنتظم كتابياً توبياس ليندهولم، يتخلّيان عن الحكاية الأخلاقية، وفي الثلث الأخير من الفيلم، يتجنبان اختزال القصة الى مجرد بورتريه للضعف الذكوري، من أجل الاقتراب من التفكير الوجودي. اقتباس من النرويجي الآخر سورين كيركيغارد يفتتح الفيلم (ما الشباب؟ الشباب حلم، والحُبّ هو مضمونه)، واختبار شفوي يؤديه أحد الطلاب المتعثرين دراسياً يأتي على ذكر تعريف القلق الإنساني كما قدّمه المفكر الدنماركي، الذي يخيّم فوق التسلسل الختامي بأكمله (عدم قدرة الإنسان على النجاة من الفشل، وحب الآخرين بعد الاستسلام)؛ يعلي كثيراً من أثر وتأثير فيلمٍ تنظم تغيرات الإضاءة في مشاهده التطورَ الذي عانت منه الشخصيات (كاميرا المصور السينمائي النرويجي ستورلا براندث جروفلين)، مثلما يتشابه مدار أحداثه ونقلاته مع تجربة الشرب ذاتها: رشفة بعد رشفة، نسيم خفيف يعقبه طفو، ثم سقوط، ثم إغفاءة، فنسيم جديد. ينتقل الفيلم الذي أراده صانعه في البداية فيلماً كوميدياً عن الكحول، من الكوميديا ​​المرحة إلى التراجيديا لينغمس أخيراً في احتفال جليل بالحياة، يقدّم فيه مقترحه الأساسي حول وجوب الهزائم الشخصية كشرط لا غنى عنه للمرء للبقاء واقفاً على قدميه.

في النهاية، استطاع إنجاز ما هو أكثر من مجرد عمل تراجيكوميدي حول أزمة منتصف العمر وحياة تستحق العيش من خلال كل الخسارة وخيبة الأمل والفشل. هنا يجمع بين واقعية الروتين واسترخاء السُكر، الإدمان مع صداع الهانج أوفر، الألم مع الفرح. رسالة العمل الذي لا يدين أو يشجع على الشرب تؤكدها ظروف إتمامه، فبعد أربعة أيام من بدء التصوير، توفيت ابنة المخرج التي كان من المفترض أن تؤدي دوراً في الفيلم، ما جعل المشروع أكثر أعماله الشخصية بطريقة ما.

 

(*) رُشّح الفيلم مؤخراً لجائزة أوسكار أفضل فيلم دولي.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها