الأحد 2021/03/28

آخر تحديث: 09:51 (بيروت)

الشعانين: عن إنجيل يوحنّا والملك الفقير

الأحد 2021/03/28
الشعانين: عن إنجيل يوحنّا والملك الفقير
increase حجم الخط decrease
تقول الحكاية إنّ يسوع الذي من الناصرة، قبل عيد الفصح بستّة أيّام، أتى إلى بلدة قريبة من المدينة المقدّسة اسمها بيت عنيا، وهناك أقام من بين الأموات صديقاً له يدعى لعازر. دخول المسيح إلى القدس تعيّد له الكنائس يوم أحد الشعانين. يرفع الناس سعف النخيل وأغصان الزيتون كي يتذكّروا كيف هتف الناس قديماً للمسيح ورأوا فيه ملكاً، فيما هو «يستعيد» مدينته من قبضة الحلف الموضوعيّ بين جبابرة الأرض الرومان والأوليغارشيّة اليهوديّة، بطريقة مذهلة في رمزيّتها: يمتطي جحشاً ويدخل المدينة كما يدخلها الفقراء وصغار الباعة: «لا تخافي يا ابنة صهيون، هوذا ملكك آتٍ، راكباً على جحش ابن أتان». ولكنّ الناس سرعان ما أدركوا أنّ الحمير ليست للملوك، وأنّ هذا الرجل الآتي إلى أورشليم يأتيها بسلاح اللاعنف، وهو لا يخطّط للقيام بثورة مسلّحة ضدّ المحتلّ الرومانيّ. كلماته التي ما زالت تخلخل عروش الأقوياء حتّى اليوم هي السلاح. وشخصيّته التي تجمع بين الوداعة والحزم هي الثورة. من البديهيّ أنّ رجلاً يحمل برنامجاً مجنوناً كهذا مصيره الموت، ومن البديهيّ أنّ قتله سهل. يموت، فترتاح الأمّة وتعود إلى سباتها من جديد. على قاب قوسين من بيت عنيا تنتصب خشبة الصليب. وبين الشعانين والجمعة العظيمة لقاء هو أشبه بالوداع، كما كتب الشاعر محمود درويش.


حكاية بيت عنيا وحكاية لعازر الذي أقامه المسيح من ليل الموت وحكاية أختيه، مرتا التي لا تستكين ومريم التي سكبت قارورةً من الطيب الصرف على قدمي يسوع ومسحتهما بشعرها، كلّ هذه الحكايات يرويها إنجيل يوحنّا. يرى معظم دارسي العهد الجديد أنّ هذا الكتاب، وهو الرابع والأخير في ترتيب الأناجيل، كُتب في أواخر القرن الميلاديّ الأوّل، ربّما إبّان حكم القيصر ذوميتيان (٨١-٩٦). فإنجيل يوحنّا يستعيد بوضوح اللقب الذي كان يُطلقه هذا الإمبراطور على نفسه، أي «الربّ والإله»، وذلك حين يتوجّه توما الرسول إلى المسيح بعد قيامته منادياً إيّاه: «يا ربّي وإلهي». لعلّ هذا الكتاب هو أحد أعظم الآثار الأدبيّة التي وصلتنا من الأزمنة القديمة: حكاية موضوعة بلغة يونانيّة سهلة كثيراً ما تذكّر ببنية الجملة في اللغات الساميّة؛ وأسلوب أدبيّ يضارع أرفع ما نجده في الكتابة الأدبيّة من ملحمة جلجامش إلى إيريك-إيمانويل شميت، وذلك بفضل لعبة التكرار التصاعديّ التي تصبح قوام لغة شعريّة مذهلة في إيحائيّتها؛ ونصّ محكم السبك يستند إلى عدد كبير من التوريات والمحمولات المزدوجة والسخرية التي تتنقّل بسلاسة بين الحدث التاريخيّ والحبكة الأدبيّة، فضلاً عن عدد لا يستهان به من العناصر السرديّة المفتوحة. فيشير الكاتب، مثلاً، إلى أنّ أخصام يسوع عقدوا العزم على قتل صديقه لعازر أيضاُ، ولكنّه لا ينبئنا بالمحصّلة النهائيّة لهذه المؤامرة «الجانبيّة» تاركاُ للقرّاء أن يستنتجوا وظيفة هذا التفصيل السرديّ «المفتوح». بعدها ينقلنا إلى عالم المحمولات المزدوجة، فيكتب عن يهوذا، التلميذ الخائن، لدى مغادرته مجلس يسوع الأخير: «وخرج للحال، وكان ليل»، مومئاً إلى أنّ المسيح هو النور الحقيقيّ.


كان المطران جورج خضر يقول إنّه لو قيّض له أن يذهب إلى جزيرة لا يُسمح له أن يصطحب إليها إلاّ كتاباً واحداً، لاصطحب إنجيل يوحنّا. اليوم، وفي غمرة أحد الشعانين بحسب التقويم الغربيّ، يطلّ علينا هذا الإنجيل من ثنايا قصّة الأختين في بيت عنيا، وقصّة الرجل الذي مرض ومات ثمّ أقيم، كي يستبق بذلك حكاية المصلوب الذي سيقيمه الله من بين الأموات معلناً انتصاره على مكر الناس المارقين: «ومكروا ومكر الله، والله خير الماكرين». كما يطلّ علينا هذا الإنجيل العظيم من مطاوي حكاية «الملك» الذي امتطى جحشاً كي يلقّن حكّام هذه الأرض وطغاتها درساً في الفقر، ودرساً في الجوع، ودرساً في اللاعنف الذي هو أقوى من كلّ أسلحة الأرض. إنّها، لعمري، دروس بليغة ستأخذه، وتأخذنا معه، إلى بلاغة الصليب الذي تنكسر عند نثار خشبه كلّ بلاغات اللغة، ولا يبقى إلاّ نثار الضوء.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها