لقد انتشرت رواية السجون سراً داخل المجتمع السوري، في الفترة التي بدأت فيها أول ثورات الربيع العربي، وازدادت انتشاراً بعد بدء الثورة في سوريا، حتى أن الشباب المشاركين في الثورة وصفوا "القوقعة" مثلاً بأنها إنجيل الثورة.
أما الروايات التي صدرت بعد الثورة، فكان من الطبيعي جدا أن تتناول الاعتقال السياسي وسجون الرأي، لأن أكثر من نصف مليون سوري اعتقلوا منذ آذار 2011. وقد مثلت رواية "تقاطع نيران" لسمر يزبك، الرواية التوثيقية الأولى، إذ تناولت ظاهرة الاعتقال السياسي والقتل تحت التعذيب، كما توضحت العودة إلى تناول سجون الرأي في رواية "ليل العالم" لنبيل سليمان، و"الخائفون" لديما ونوس، ولدينا رواية "الموت عمل شاق" لخالد خليفة، ورواية "السوريون الأعداء" لفواز حداد، ورواية "جنة البرابرة" لخليل صويلح، والعديد من الروايات الأخرى.
ويمكن القول إن رواية السجن السورية حملت أهمية خاصة من خلال العوامل التالية:
- تحول رواية السجن السورية إلى وثيقة لإدانة النظام السوري
لقد استطاعت رواية السجن السورية أن تؤرّخ وبشجاعة نادرة، لحقبة مندثرة من التاريخ الحديث لسوريا، حيث قدمت للإنسان السوري الحقائق التي كان يخفيها النظام السوري، وبلا رتوش، لا سيما أن العديد من كتّابها هم سجناء رأي، عاشوا سنوات في زنازين الأسد، وهذا ما جعل القارئ يثق فيها.
- توثيق رواية السجن السورية للسجن الذي وصف بأنه الأسوأ في العالم
لقد شكلت روايات السجن السورية إضافة إلى كتاب "سوريا: الدولة المتوحشة" للفرنسي ميشيل سورا"، المفتاح الحقيقي للتعرف على الوضع السياسي والحقوقي في سوريا خلال العقود الماضية، مؤكدة على أن حجم التعذيب في سجن تدمر كان أكبر من الخيال، وكان يمارس بقرار صادر من رأس السلطة وبموافقته. وتبعاً للمنظّرة حنة أرندت: "فإن فقدان الشعور الإنساني الذي يحمل في طيّاته الخضوع والذلّ، كان هدفًا أساسيًّا لسياسة التعذيب". وهذا التوثيق هو التعبير المكتوب عما وثقته الصور التي سرّبها "قيصر" سوريا، العام 2015، فلم تكن الصور بعد القراءة إلّا بانوراما بصريّة عاكسة لرواية السجن السورية، التي شاهدها العالم كله وصمَت.
- توثيق رواية السجون السورية لإعدام المعتقلين في سجون النظام
تحدثت رواية السجون السورية عن تفاصيل الإعدامات الممنهجة التي كانت ولا تزال تتم في أقبية نظام الأسد، وكشفت بشكل خاص عن الإعدامات في سجن تدمر، إضافة الى المجزرة التي حصلت في السجن، ولم يعرف بها أحد في وقتها.
- توثيق الأيديولوجيات في المجتمع السوري
تحاول الرواية "تقديم الواقع في محاولة منها لتفسيره ومن ثم تغييره" بحسب الناقد الاجتماعي بيير زيما، وهذا ما فعلته روايات السجون السورية. فالكثير من الكتّاب هم معتقلون ماركسيون مثل مصطفى خليفة وياسين الحاج صالح وغسان جباعي ومي الحافظ، لكن معظم رواياتهم جعل من أبطالها المعتقلين ينتمون إلى طبقات المجتمع السوري كافة بتنويعاته الأيديولوجية.
- إنصاف اتجاه الظلم المفرط الذي تعرض له كل من اتهم بالانتماء لجماعة الإخوان المسلمين أو كل من كان يعيش في حماه وضواحي حلب وحلب المدينة
ولعل أكثر الروايات مثالاً على هذا المحور هي "القوقعة" حيث جعل الكاتب البطل مسيحياً، لكنه يعتقل بتهمة الانتماء للإخوان المسلمين، وهذا يقود القارئ منذ الصفحات الأولى الى معرفة كم هم كثر أولئك الذي دخلوا السجن وعذبوا وقتلوا بتهمة الانتماء للاخوان المسلمين، وهم في الحقيقية مظلومون، وكيف أن نظام الأسد أباد جيلاً كاملاً بحجة معاقبة الجناح العسكري من الإخوان المسلمين.
- توثيق رواية السجون السورية للبنية الطائفية لضباط الجيش والمخابرات
وضحت غالبية روايات السجون السورية، البنية الهرميّة العسكريّة التي تسيطر على تفاصيل النظام الأسدي، كما أنها أضاءت على فكرة شديدة الأهمية، وهي التدهور الأخلاقيّ الذي سبّبه النظام في المجتمع السوريّ، مؤكدة على أنّ جوهر النظام الشموليّ يكمن في استخدام العنف غايةً في حدّ ذاتها، بهدف تحويل الناس إلى أدوات للسلطة.
- توثيق روايات السجون السورية لتورط الجيش في عمليات التصفية والتعذيب
إن معظم الروايات تتقاطع مع ما كتبه الباحث السياسي حنا بطاطو في كتابه "فلاحو سوريا": أبناء وجهائهم الريفيين الأقل شأنا وسياساتهم، حول سيطرة أبناء طبقة الفلاحين، على الجيش وعلى الأجهزة الأمنية والعسكرية في سوريا، وكيف كان يتم تحويلهم لوحوش "فاقدي الانسانية".
- فضح أدب السجون لحجم حالة اليأس التي كان قد وصل المجتمع السوري
إن حالة الضياع و"اللاشيء" التي عايشها معظم أبطال الروايات بعد خروجهم من السجن هي حالة المجتمع السوري كله، ورد هذا بشكل خاص في "قهوة الجنرال" لغسان جباعي و"الفقد" للؤي الحسين و"حراس الهواء" لروزا الياسين و"الخائفون" لديما ونوس.
وفي النهاية، قدمت رواية السجن السورية دراسة حقيقية عميقة عن الخوف الذي يضرب جذوره ويتأصل في نفس المعتقَل، وعلاقته العضوية بالخوف العام المستشري في المجتمع، رابطة منطق السلطة السورية وأداتها الرئيسية بهذا الخوف، وواضعة قارئها أمام نفسه، حيث جعلته غير قادر على الصمت أكثر، غير قادر على اللامبالاة، كما أن غالبية الروايات الصادرة خلال الأعوام العشرين الماضية، ممنوعة من النشر والتداول من قبل السلطة السورية، وهذا يدل على العلاقة التضادية بين الرواية والسلطة. وأخيراً، يجب أن نعترف بأن وضع القمع المرعب في مرحلة ما قبل الثورة السورية، بالاضافة إلى التعقيدات التي جاءت طول سنوات الثورة، أفرزت نصّاً روائياً هجيناً، هو مزيج من التوثيق والتخييل، إذ اتجه معظم الروائيين السوريين في هذه الفترة، مرغمين ربما، نحو رواية التوثيق، أو رواية الحرب، كما لو أنهم يكتبون سيرة الخوف والتعذيب والدمار والقتل.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها