الثلاثاء 2021/03/23

آخر تحديث: 12:58 (بيروت)

خطّ من الضوء

الثلاثاء 2021/03/23
خطّ من الضوء
لؤي كيالي
increase حجم الخط decrease
«هرمتُ فرُدّي نجوم الطفولة...» (محمود درويش)
 
قضى النهار كلّه يقرأ الصفحات الفايسبوكيّة. كانت تغصّ ببطاقات معايدة للأمّهات في عيدهنّ، وبمدوّنات لهذه المناسبة يتراوح مستواها بين الغثّ والثمين. ولمّا أدرك، قبيل آخر النهار، أنّه تخطّى الانقباض الذي يصيب البشر في مثل هذه المناسبات الغنيّة بالتباساتها، قرّر أن يكتب لها رسالة.

هو ليس في حاجة إلى اختراع الكلمات. يكفيه أن يذهب إلى الصورة الكبيرة المنتصبة في صحن الدار. هناك سيقطف بعض الكلمات التي تتجمّع كلّ يوم قبيل غياب الشمس على حافّة الخطّ الضوئيّ الذي يخترق النافذة، وينكسر عند ركبتي صاحبة الصورة. سيقطف الكلمات الحلوة المنبعثة من الضوء ويلقي بها على مساحة الصفحة البيضاء، والكلمات المقطوفة تتكفّل بكلّ شيء. ستسرّح الكلمات شعرها وترتدي فستاناً اقتدّ من نزق الورود وانكسار الياسمين، ثمّ تتجمّع وتتشكّل في جمل ذات معنى كي تصنع الرسالة. ومن ثمّ، يأخذ الرسالة إلى مكتب البريد في الشارع المقابل ويطلب من الموظّفة اللطيفة أن تلصق عليها طابعاً بريديّاً جميلاً. هذا كلّ ما في الأمر.

يعرف أنّ الموظّفة اللطيفة لن تسمح له بالدخول إلى مكتب البريد ما لم يغطَّ فمه ومنخريه بقناع بسبب الجائحة. لكنّه احتاط للموضوع. فهو ابتاع عدداً من الأقنعة الطبّيّة كتلك التي يستخدمونها في المستشفيات، وهذا النوع من الأقنعة مخصّص لمساعدة البشر على تنفيذ المهمّات الصعبة. استلّ القناع من جيب قميصه وغلّف به فمه، ثمّ تغلّب على تردّده ودخل مكتب البريد بحركات مختزلة وشبه آليّة. دفع بالرسالة إلى الموظّفة اللطيفة بعدما دسّها في مغلّف كان قد اشتراه البارحة خصّيصاً لهذه المهمّة. لكنه حين أوعز إليها بمهر الرسالة بطابع بريديّ جميل - ورود قال، أو شيء من هذا القبيل - سألته عن العنوان. صحيح! لم يكتب عنواناً على المغلّف. أيّ عنوان يكتب؟ أطرق. قفز الخجل من محجريه وملأ فضاء المكان. لكنّه أجاب أنّه نسي العنوان على قصاصة ورقيّة في البيت وعليه أن يعود فوراً. "لا عليك، قالت، فأنا هنا حتّى الساعة السادسة"، ثمّ عاجلته بابتسامة لطيفة.

قفل عائداً إلى البيت. أيّ عنوان يكتب؟ كيف لم ينتبه إلى هذه المعضلة؟ دخل غرفة نومه ودفن رأسه بين كفّيه. أيّ عنوان يكتب؟ كادت الدموع تطفر من عينيه. حملق في الأشياء المحيطة به عساها تريحه من وجع الدموع التي تخونه كلّ مرّة ولا تأتي. لكن سرعان ما خطرت له فكرة. فاستلّ من درج مكتبه زجاجةً صغيرةً تنطوي على مادّة لزجة لاصقة. أخذ الرسالة وأهرق على طرفها بضع قطرات. ثمّ مشى بخطوات متثاقلة إلى صحن الدار وتوجّه إلى الصورة السابحة في الخواء وألصق رسالته إلى إحدى زوايا إطارها. ثمّ خرج من البيت بخطوات متسارعة طلباً للهواء النقيّ.

في الغد، كانت الرسالة ما زالت ملصقةً على إطار الصورة. وحين اخترق خطّ الشعاع الضوئيّ النافذة وارتمى عند ركبتي المرأة المعلّقة في الصورة مثل تفّاحة، كانت ذرّات الضوء تحتضن كلمات الرسالة كأنّها حجارة كريمة وتحملها بعيداً بعيداً... صوب مجرّة أخرى تلاشت كلّ كواكبها ولم يبقَ فيها إلاّ الضوء.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها