الجمعة 2021/03/19

آخر تحديث: 16:26 (بيروت)

فضاءات الرواية.. خرائط ذكيّة للاحتجاج

الجمعة 2021/03/19
increase حجم الخط decrease
لا يخلو الفن الروائي، على مدار تاريخه القصير في مصر والعالم العربي، من الصوت الاحتجاجي، الرافض لأوضاع قائمة وقوانين سائدة، المُنادي بالتغيير الاجتماعي إلى الأفضل، وربما الحراك الثوري، والمشحون أحيانًا بنبرة المعارضة السياسية، سواء بتمثلاتها الحزبية والإيديولوجية الصريحة، أو من خلال الإسقاطات التاريخية والترميزات والحيل والألاعيب والمراوغات الفنية.

وخلال السنوات القليلة الأخيرة، يمكن القول إن لغة الخطاب الاحتجاجي المباشر في الرواية لم تعد المهيمنة، وذلك بالتوازي مع فراغ الشارع ذاته من أحزاب المعارضة الشرسة، وانسحاب الحركات والتكتلات والجماعات السياسية والفكرية المؤثرة، ما جعل الأدباء المستقلين أو غير المتوافقين مع ما يجري حولهم من سياسات وممارسات، لا يجدون غير الفعل الإبداعي وحده للإعلان عن مشاكستهم وشغبهم ومواقفهم المناوئة ورؤاهم المخالفة، بأساليب ضمنية.

هل بإمكان القلم بمفرده إنجاز معادلة التعبير عن الاحتجاج والمعارضة، مع تحقيق التفاعل العضوي مع المجتمع؛ في الوقت ذاته؟ وهل تكفي استعانة المبدع بأدبه فقط لإثبات آرائه المغايرة إزاء القضايا والأحداث الكبرى، والأزمات والمشكلات، وغيرها من الأمور الخلافية، من دون أن ينخرط في مواجهات صدامية على الأرض، واشتباكات من لحم ودم، مع القوى المتسيّدة؟

بغض النظر عن كون ذلك الاختيار "المكتبي" هو المثالي أم لا، فإن حركة الواقع قد دَفَعَتْ فعليًّا إلى أن يكون هو الاختيار المتاح في اللحظة الراهنة، المحكومة بالتضييق وتضاؤل الحريات. وحتى في لحظات سابقة أكثر اتساعًا، فقد نحا روائيون ومبدعون كبار صوب هذا التوجّه، على رأسهم نجيب محفوظ على سبيل المثال، الذي مارس في روايات كثيرة مثل "الكرنك" و"ميرامار" و"ثرثرة فوق النيل" وغيرها سبل المعارضة وتفنيد ما هو قائم وسلطوي بحدّة وجسارة، مكتفيًا بدوره كمؤلف لا يتخطى حيّز الأدب الروائي إلى العمل العامّ، في إطار حزب أو تنظيم أو جماعة مؤدلجة.



في الأعمال الروائية والقصصية الجديدة، التي لقيت صدىً مقبولًا وحضورًا ملموسًا خلال الفترة الوجيزة الماضية، أفصح صوت الإبداع المستقلّ عن خرائطه الذكيّة التي لا تكفّ عن الانتقاد والاحتجاج والدعوة إلى التغيير والتثوير، من دون أن تحصر هذه الأعمال مؤلفيها في ترداد "مانفستو" ضيّق بعينه، ومن دون أن يؤخذ عليها في الوقت نفسه التعرّض لسلطة ما أو لحكومة محددة بالسخرية أو الإهانة، ما كفل لهذه الأعمال أن تنجو وأصحابها نسبيًّا من قبضة البطش والتنكيل، وتبعات التجريم والملاحقة.

في هذا السياق، يمكن التمثل بروايات متنوعة، لمبدعين مصريين وعرب من أجيال مختلفة، تمسكوا رغم الظروف القاسية المحيطة؛ بالقبض على جمر أدب الرفض، المكافح للظلم والقهر والفساد، منهم: صنع الله إبراهيم، محمد المخزنجي، إبراهيم عبد المجيد، جلال برجس، دنيا ميخائيل، صبحي فحماوي، عبد النبي فرج، سعاد سليمان، وليد علاء الدين، منال السيد، وغيرهم.

وتكفي إطلالات موجزة على هذه الفضاءات الروائية للعودة بالقنص المراد، حيث ينفذ صوت الاحتجاج والمعارضة إلى المتلقي صافيًا، متسلحًا بأبجدياته وآلياته وفنياته الخاصة، المبنية على الجماليات الرصينة والإشارات الومضية، لا على الضجيج الصارخ، والتصريح الفج الفاضح.

في روايته "قطط العام الفائت"، ينتقد إبراهيم عبد المجيد الأوضاع في مصر على كافة المستويات بعد فشل ثورة 25 يناير 2011 في تحقيق أهدافها "عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية"، ويستدعي الكاتب أحوال الواقع وتقلباته وإحباطاته وانكساراته من خلال لعبة تخييلية على مسرح الأحداث تدور في بلد يسمّيه "لاوند"، قامت فيه ثورة في اليوم نفسه الذي حدثت فيه الثورة في "مصرايم"، ويذهب الكاتب إلى إمكانية بلوغ حلم الثورة من جديد، وذلك بعد أن يتحوّل آلاف الشباب الثوريين المنفيين إلى الوراء إلى "قطط" تملأ الميادين، لتبدأ رحلة اليقظة ومحاولة استعادة الثورة بطرق مختلفة، لا تتكرر فيها أخطاء الماضي.

وفي روايته الأخرى "سايكلوب"، ينطلق عبد المجيد من اللحن الحزين ذاته "فشل ثورة يناير"، وانتشار روح الفشل إلى كل ما يدبّ فوق أرض الواقع المصري. وعبر لعبة فنية أيضًا هي التماهي بين سيرة المؤلف وسيرة زائفة لكاتب وهمي داخل الرواية، يتمكن عبد المجيد وأبطال عمله بحرية من توجيه سهام الاحتجاج إلى سائر الممارسات الكائنة في حقول السياسة والاقتصاد والإعلام وغيرها، إلى جانب الانتقاد الشرس للقوى السلطوية والدينية والجماعات المتشددة وطبقة رجال الأعمال وغيرها، ليصل بوضوح في الخاتمة إلى مرحلة ظهور "السايكلوب"، أو ذلك الوحش الأسطوري المفترس، الذي يفتك بالكلّ في المجتمع الغارق في الذل والوجع والفقر والعجز والحصار.

وفي روايته "1970"، يمضي صنع الله إبراهيم صوب تكنيك آخر، هو الإسقاط التاريخي، حيث ينسج خيوط عمله حول سيرة شخصية الرئيس جمال عبد الناصر، فيما ينظر في الحقيقة إلى ما آل إليه الحاضر من سقوط وتراجع، بفعل التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي بدأت في أعقاب رحيل ناصر، واستمرت إلى يومنا هذا، معلنة حلول الخراب الكامل، وتصاعد الدراما الحياتية إلى ذروة مأساويتها، خصوصًا بالنسبة للطبقة المتوسطة، وجموع البسطاء والمهمّشين والمسحوقين، الذين لم تعد تسعهم أرض المجتمع الجديد.

وتجسّد أعمال محمد المخزنجي صورًا متنوعة للسخط على الواقع وانتقاد السائد والرغبة في التغيير، وتشكل قصصه القصيرة وقصيرة القصيرة، كما في "رشق السكين"، طلقات نافذة للتنبيه من الغفلة، وإبراز حجم المآسي والأحزان المنتشرة في كل مكان، ويتخذ من اللغة الشعرية المجازية طريقه نحو الترميز والإشارة الضمنية إلى كل مستجدات اللحظة الراهنة من سقطات وانحدارات وجراح وقتل لعذوبة الهواء وزقزقة العصافير.

ويعمد عبد النبي فرج في روايته "زواحف سامة" إلى مطابقة الحقيقي والمتخيل، كاشفًا سوءات المجتمع المصري الجديد في سعاره وطبقيته وتشرذمه، خصوصًا في القرية، التي طالتها بدورها مراكز النفوذ المتعددة: السلطة السياسية والدينية، رجال الأعمال، الأعيان، فيما غرق الأغلبية في البؤس والمرض والجهل والخرافة والموروث من الأفكار البالية والعادات السيئة، وهو التغييب الكامل جرّاء سياسات التجريف السائدة منذ عقود. وفي مثل هذا الحاضر الكابوسي، فإنه لا مجال حتى للحلم بمستقبل يأتي من ثقب في جدار القسوة.

وفي روايته "الغميضة"، يحكي وليد علاء الدين تفاصيل لعبة "الاستغامية" المعروفة في عالم الأطفال، ليقدم من خلالها متاهات الحياة الجديدة في المجتمع المصري، بكل ما فيها من سراب وعشوائية وسير على غير هدى وضياع للخطوات والآمال، وانتشار للزيف والأقنعة وأحابيل النصب والاحتيال، ولا يتبقى شيء من معاني الوطن بعد غياب الإنسان.

ويرصد هشام الخشن في روايته "شلة ليبون" عبر لعبة "البوكر" ومحطات التاريخ أبرز أزمات المجتمع المصري في سنواته الأخيرة، حيث التفاوت الطبقي الذي فاق حدود التصور، بشكل يعيد إلى الأذهان ما قبل ثورة يوليو 1952، ويشرّح الكاتب ما ترتّب على هذه الأوضاع الكارثية الراهنة من انفلات قيمي وأخلاقي، وتكريس للتسليع والمادية المفرطة ولغة السوق، وتغييب للعدالة والقانون.

وتتقصى منال السيد في روايتها "غنا المجاذيب"، وسعاد سليمان في "هبات ساخنة"، تحوّلات الواقع المصري في السنوات الأخيرة، وكيف أن المجتمع قد بات في سن اليأس وانعدام الوزن، شأنه شأن امرأة فقدت عمرها وحيويتها، ولم يبق لها غير الفقد والمرارة بعد تحطم أحلامها وفشل ثورة 25 يناير في إنجاز أهدافها. ويطلق إبراهيم فرغلي انتقاداته في روايته "قارئة القطار"، التي يجعل فيها اللحظة الحالية التي يعتليها الجميع بمثابة قطار غير معلوم من أين جاء، ولا إلى أين يمضي، فهي مرحلة التخبط وغياب الوعي والبوصلة الهادية.

ومن الروائيين العرب، هناك الكثيرون ممن سلكوا دروب الاحتجاج والمعارضة الوعرة في رواياتهم الحديثة، منهم العراقية دنيا ميخائيل، والأردنيان: صبحي فحماوي، وجلال برجس. ففي "وشم الطائر"، تنتقد ميخائيل تداعيات تغلغل تنظيم داعش الإرهابي في أوصال العراق وسورية، وتحالفاته المشبوهة مع قوى إقليمية محيطة. ويتلمس فحماوي في "قاع البلد" تفاصيل هذا القاع، بما فيه من بشر مستضعفين يصارعون البقاء في أعقاب الانتكاسات المتتالية. ويعرّي برجس في "دفاتر الورّاق" أحوال الفقراء والمهمّشين في بلاده، وكيف صار المثقفون من الطبقات المتوسطة والدنيا في الهاوية، شأنهم شأن الورّاقين القدامى والمكتبات الرثة التي هدمتها السلطات لتهديها لرجال المال والأعمال.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها