بعد سنوات، وردت أنباء عن مكانه: إنه محتجز في خليج غوانتانامو وسيقدّم للمحاكمة، بعد ضغوط ومماطلات. ستدافع عنه المحامية الشهيرة نانسي هولاندر (جودي فوستر)، بمساعدة شريكتها الشابّة والمبتدئة تيري دنكان (شايلين وودلي)، بينما في الجانب العسكري/الادعاء، ستيوارت كوتش (بنديكت كومبرباتش، بلكنته وطريقة نطقه الآلية) الذي قضى أحد أصدقائه المقرّبين في هجوم البرجين، وهو مصمّم على إيصال المتهم إلى كرسي الإعدام. بالنسبة لهولاندر، الشيء الرئيسي هو احترام العملية القضائية وسيادة القانون. لا تعرف إن كان الرجل مذنباً أم لا، لكنها تؤمن بأن لكل متهّم الحق في الدفاع عن نفسه وبأنه لا يستحق أن يُسجن من دون أي تهم حقيقية.
يصل الفيلم، في وقت متأخر جدًا إلى المحاكمة المعنية - التي ستستغرق سنوات - وينقضي جزء كبير من الفيلم في إظهار العلاقة التي أقامتها المحاميتان مع صلاحي، الذي يحاول أن يكون مرحاً ولطيفاً، رغم قسوة معاناته هناك. من خلال ذكريات الماضي التي تشغل دقائق طويلة من القصة، نرى السنوات الأولى للرجل في تلك القاعدة العسكرية الأميركية سيئة السمعة في كوبا، والتي تزداد صعوبتها بتولّي الاستخبارات الأميركية مهمة التحقيق معه وإجباره على الاعتراف بجرائم لم يرتكبها، في نهجٍ مشابه لما شاع عندنا في بلادنا العربية واحترفته الأجهزة الأمنية من انتزاع الاعترافات تحت التهديد والتعذيب الجسدي والنفسي.
بأسلوب بارد ومزعج أحياناً، يراكم الفيلم لقاءات: بين المحاميتين وصلاحي، بين هولاندر والمدعي العام، بين المحاميتين، بين هولاندر وصلاحي، بين كوتش وصديق له عمل في غوانتانامو، وهكذا. عند نقطة معينة، تصبح رتابة سلسلة اللقاءات - التي تقاطعها ضراوة ذكريات الماضي - روتينية ومرهقة. في الواقع، ليس لدى الفيلم أي أفكار/اقتراحات مرئية ليقدّمها، حتى ليبدو في كثير من زمنه أقرب إلى حلقة طويلة من مسلسل تحقيقات تلفزيوني. هذا فضلاً عن أن الإجراء الآخر الوحيد الذي يقوم به المحامون، في الفريقين، هو قراءة ملفات التحقيقات، المنقّحة والخاضعة للرقابة. في وقت لاحق من الحبكة، بسبب بعض الكشوفات أولاً والمحاكمة تالياً، يكتسب الفيلم عَصَباً سردياً أو شيئاً من هذا القبيل. لكن هذا يحدث بالقرب من نهاية فيلم تزيد مدته عن ساعتين. وهناك فيلم آخر كامن في ما بعد المحاكمة، ربما يكون أكثر إلحاحاً وضرورية، يشار إليه فقط في تترات النهاية.
على مستوى التمثيل، يمنح الفيلم ممثلين متمرّسين مثل فوستر وكومبرباتش مساحة كافية، فقط لاستعراض عضلاتهم في مشاهد مخصّصة لذلك، بينما تنزوي المسكينة شايلين وودلي إلى خلفية كل مشهد تظهر فيه تقريباً باعتبارها زميلة هولاندر الغبية عديمة الخبرة. لكن في الناحية الأخرى، يعرف طاهر رحيم أن هذا فيلمه، حتى عندما لا يعرف/يريد المخرج ذلك. كما هو الحال في دوره في الفيلم الذي صنع نجوميته، "
نبي" (2009، جاك أوديار)، ثمة شيء يحترق بداخله ويهدد دائماً بالغليان. يبذل رحيم كل ما في وسعه لتجسيد هذا الرجل الذي بدا أحياناً أنه لا يشعر بثقل التجارب الوحشية، بل إنه كان قادراً على تكوين صداقات مع الحرّاس، وفي الأخير مسامحة سجّانيه ومعذّبيه. بقية الممثلين يقدمون مساهمات محمودة، لكن من السهل نسيانها. قد نحب جودي فوستر، لكن فلنتفق على أن فوزها بجائزة غولدن غلوب لأفضل ممثلة مساعدة كان لفتة تقديرية لاسمها وكاريزماها لا أكثر.
بالعودة إلى رحيم/صلاحي، الذي ينساه الفيلم في خضم تركيزه على خلفيات المحاكمة ودهاليز السياسة الأميركية ومحاولة إدارة بوش، ووزير دفاعه دونالد رامسفيلد، تقديم كباش فداء لفشلهم الأمني والاستخباراتي.. هناك فيلم آخر غير مستكشف في مشاهد رحيم، وهو فيلم ذو عمق نفسي أكبر بكثير من هذا الذي رأيناه. حكايات الظلم الأميركي تتكاثر في مثل هذه البيئات التي لا يستكشفها الفيلم، بيئة الصفقات السياسية والتطبيع مع الظلم والتقاعس تجاه حقيقة ارتكاب فظائع "وطنية" تحت ستار مكافحة الإرهاب أو أي عدو آخر متخيّل. قد يكون إنجاز تحقيق يخوض عميقاً في الواقع الوجداني والعاطفي الرابض تحت هذه المظالم، أكثر تأثيراً وإقناعاً من مجرّد تكييف سينمائي آخر لقصّة حقيقية واستثمار ذلك المنطلق فقط لاكتساب قيمة أو تقدير من دون تقديم ما يناظره فنياً.
لا يجتهد الفيلم إطلاقاً، بل يستبعد، بلامبالاة، الكثير من الأعمال القانونية الدقيقة في مشاهد لا تستغرق سوى دقائق معدودة، ويصوّر التطورات الجسيمة كمواجهات انفعالية وبلاغية، ويخلّف جميع مواضع التدقيق والفحص في هرولته نحو إكمال دائرة سرديته بسلاسة لا تعوقها تعقيدات مساءلة الأفكار/السياسات الأميركية، ولا فرادة قصة صلاحي نفسه التي تتحوّل هنا قصةً عادية، أو مجرد ضحية مأسوية أخرى للهياج القومي/الجمهوري الذي سيطر على كل إدارة فيدرالية في الولايات المتحدة منذ 11 أيلول.
لكن الأفضل هو ما يحدث عندما ينتهي الفيلم، ويتركنا ماكدونالد (المخرج القادم أساساً من السينما الوثائقية)، لبضع دقائق، مع صلاحي الحقيقي. الوثائقي لديه القدرة على إثارة المشاعر في هذا النوع من القصص التي يصعب على الروائي قبضها، خصوصاً عندما لا يُنجز بالشكل المناسب. وفي تلك اللحظة يداخل المرء انطباع بأنهم صنعوا الفيلم الخطأ، وأن القصة يجب أن يرويها بطلها.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها