الثلاثاء 2021/03/16

آخر تحديث: 12:44 (بيروت)

يزن حسان عباس..اشتعَلت غيرتي من شرارات تسرّبت داخل طوقك

الثلاثاء 2021/03/16
يزن حسان عباس..اشتعَلت غيرتي من شرارات تسرّبت داخل طوقك
حسان عباس
increase حجم الخط decrease
طفلاً صغيراً يستمعُ إلى أغنية يتخللُها مقطعٌ من خطاب الديكتاتور في فيلم شابلن، أَذكرُني. لم أكن عرفت شابلن بعد، فكنتَ أنت الشابلن في المخيلة. صورةُ الشخص الذي كنتَه تطابقت في مخيلتي مع ما جاءَ في الخطاب تطابقاً غريباً. هكذا أذكُر.

كلَّ شيء بذلتَه حتى تعيَّشَني أفضلَ طفولة. بجناحيك طوّقتَني لتحميَني من عوالمك: الواقع المحيط بجوانبه الاجتماعي والسياسي والأكاديمي. محصّناً بطوقك، ما لمَحتُ إلا القليل. بعض أشخاص. بعض وجوه. بعض أماكن. كلهم كانوا في قلب قضيّتك التي تبنيتَها قبل أن أجيء أنا إلى الحياة أصلاً.

من وراء الطوق، طوق الحماية الذي خفَّ إطباقُه في سنوات مراهقتي، بدأ العالَمُ يتكشف أكثر. من ورائِه لمحتُ طريقاً: الطريق الذي كنت ترسمه لأسرتنا – بل للسوريين كلهم. ذكرياتٌ مبهمة تراودني فأستعيدُ كيف شعرتُ بالحنق كلما رافقتُكَ في مشوار. أنت لم تتعمد شيئاً من هذا كله، لكني شعرتُ دوماً بأني ضائعٌ وضئيلٌ وثانوي. ثم اشتعلت نارُ غيرتَي من شراراتٍ تسرَّبت داخلَ الطوق. حرمني طوقُ المحبةِ هذا من أن أصِلَك، مثلما يَصِلُكَ طلابُك وأصحابُك وكلُّ الناسِ في عالمِك خارجَ حدودِ حِصني. عندها، أعلنتُ الانكفاء. رفعتُ رايةَ اللامبالاة، وأشرعتُ في بحور المراهقة. ربما لأني وجدتُ في انطوائي ملجَأ – أو لعلها كانت حركات مراهقين.

فُتِحَ الطوقُ بعدها. حين كبرتُ أكثر وأُخرِجتُ من طوقي، رفضتُ عوالمَك. ما شأني وإياها؟ لمَ عساي أن أختارها وأمامي هذا الفضاء الوسيع من الخيارات دونها؟ اخترتُ خوضَ رحلتي في المجهول. رحلتي أنا وحدي. في وطني الجديد بعد ذلك، الذي تسميه أنت منفى، رأيتَني رجلاً لا صلة له من قريب ولا من بعيد بعوالمك، وأحسَبُ أنّ هذا آلمَك. ثم، شيئاً فشيئاً، بدأتَ تشهدُ انخراطي في أشياء جديدة. تشهدُ كيف تبدّلَت عناوين الكتب التي أختارُها. الشغفُ بالسياسة والعملُ الأكاديمي. الشغلُ لمساعدة اللاجئين والنقاشاتُ في قضايا حقوق الإنسان. شهدتَ تحولي، وهو، وإن لم يكن إلا جزءاً يسيراً من أحلامك الكبيرة لي، أَسعدَك!

أنا نفسي ارتحتُ، لا أخفيك. صرتُ أشعر بارتياح كلما قاطعَت الحياةُ دربي مع دوربِ أصحابِ الوجوهِ التي أشعلت غيرتَي في الماضي. والحقيقةُ أني صرتُ ألتمسُ في هذه الوجوه إشارات بأني على الدرب الواعد سائر.

"طوكيو ستوري" كان الفيلم الأخير الذي تفرجنا عليه معاً. فيلمٌ من الخمسينيات يسرد بالأبيض والأسود، وببطء متعِب، إجحاف الحياة، والعلاقة المُعقَّدة بين الأطفال حين يبلغون، مع أهلِهم حين يسنّون. شعرتُ أنكَ بهذا الفيلم كنتَ تناشدني أن أبقى بقربك أكثر. كانت تلك أوّلَ مرة لي أناقشُ فيلماً وأنقدُه معك. هذا أمرٌ عملتَه أنت مرات لا تُحصى مع كثيرين غيري، في جلسات نادي السينما الكثيرة التي أشحتُ عنها وجهي. تخللت الفيلمَ مقاطعُ ولقطاتٌ تحدثنا عنها، لكنا تجنبنا الحديثَ فيها حتى لا يعترف أيٌّ منا بما كنا نعرفُ أنه مقبلٌ على الحدوث.

الآن وقد رحلت، تغمرنا محبةُ الناسِ لك واحترامُهم. عرفتُ دائماً كم أحبّك الجميع، لكني لم أدرك قبلاً كم بلغتَ بعيداً برحابة قلبك، وعملك، و روحك، وفكرك.
فلترقد بسلام.

(*) مدونة نشرها الكاتب يزن عباس في صفحته الفايسبوكية.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها