الثلاثاء 2021/03/16

آخر تحديث: 12:37 (بيروت)

البُراق "كإثبات" على أن الإسراء كان بجسد النبي..لا روحه

الثلاثاء 2021/03/16
increase حجم الخط decrease
احتفل العالم الإسلامي، الخميس الماضي، بليلة الإسراء والمعراج، وهي الليلة التي شهدت الإسراء بالنبي محمد من مكة إلى بيت المقدس، وصعوده من هناك إلى السماوات حيث شهد بعينه أعظم الآيات. تناقل أهل الحديث روايات عديدة تتحدث عن هذه الليلة، منها ما جاء على شكل القصة المطولة، ومنها ما جاء على شكل الخبر القصير. شكّلت هذه الأحاديث والقصص أساسا لروايات عديدة تُعرف اليوم بـ"أدب المعراج"، ورافق هذا الأدب نتاج تشكيلي واسع من المنمنمات، ترجم فيه المصورون بلغة الرسم واللون وقائع هذه الرحلة الفريدة.

يشير مطلع سورة الإسراء إلى معجزة إسراء الرسول: "سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا من حوله لنريه من آياتنا، انه هو السميع البصير" (الإسراء، 1). يرى المفسرون في الآيات الأولى من سورة النجم، حديثاً يؤكد ارتقاء الرسول السماوات وبلوغه سدرة المنتهى: "والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى، وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى. علّمه شديد القوى، ذو مرة فاستوى، وهو بالأفق الأعلى. ثم دنا فتدلى. فكان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إلى عبده ما أوحى. ما كذب الفؤاد ما رأى، أفَتُمارونه على ما يرى، ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى، عندها جنة المأوى، إذ يغشى السدرة ما يغشى، ما زاغ البصر وما طغى. لقد رأى من آيات ربه الكبرى" (1-18).

تُظهر مراجعة كتب كبار المفسرين تعددية الآراء في تأويل هذه الآيات، وتبرز هذه التعددية بوجه خاص في العرض المتأنّي الذي قدّمه الطبري في "جامع البيان في تأويل القرآن". في الخلاصة، لا تقدّم هذه الآيات سرداً مفصلاً لواقعة الإسراء والمعراج، غير اننا نجد في الحديث الخاص بهذه الواقعة روايات كثيرة متواترة، منها المطوّل ومنها المختصر، ويجمع العلماء على التأكيد أن هذا الحديث من الأحاديث الثابتة الصحيحة. تختلف هذه الروايات في الكثير من التفاصيل إلا أنها تتفق على الأساس. في تلك الليلة، أيقظ جبريل رسول الله، وخرج معه فإذا أمامهما البراق، فركبها الرسول وسارت به إلى بيت المقدس حيث التقى بنفر من الأنبياء وصلّى بينهم. ثم أوتي بالمعراج، فأخذ يرتقي السماء بعد السماء حتى تجاوزها جميعا إلى سدرة المنتهى، ورُفع إلى البيت المعمور حيث كلّمه ربه وأعطاه الصلاة وجعلها فرضاً على أمته. وعاد النبيّ إلى مكة بعدما بلغ المقام الذي لم يبلغه جبريل نفسه، وأخبر قوم قريش الخبر، فاشتدّ تكذيبهم له، وسألوه أن يصف لهم بيت المقدس، فجلاه الله له حتى عاينه. وأخبرهم عن عيرهم التي رآها في مسراه ومرجعه، فلم يزدهم ذلك إلا ثبورا. شكّلت هذه الروايات ما يُعرف اليوم بـ"أدب المعراج"، وانتقل هذا الأدب العربي إلى سائر أنحاء العالم الإسلامي، فباتت له روافد فارسية وتركية وهندية تضاهيه في الشعر والعرفان.

الصور الأولى
وجد هذا الأدب ترجمته التشكيلية في عدد عائل من المنمنمات، أقدمها منمنمة من مخطوط لكتاب "جامع التواريخ" لرشيد الدين فضل الله الهمذاني أنجز عام 1314 في تبريز، وفيها يظهر على البراق أمام ملاكين وسط حقل أخضر صُوّر وفقاً للأسلوب الصيني. لا يأتي النص القرآني على ذكر البراق. ولا نجد في أول مصدر وصلنا من مصادر السيرة وصفاً لهذه الناقة العجيبة، إذ يكتفي ابن اسحق بالقول المقتضب: "جاء جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم على فرس أبلق". في سيرة ابن هشام، يخبرنا ابن مسعود أنها البراق، "وهي الدابة التي كانت تحمل عليها الأنبياء قبله، تضع حفرها في منتهى طرفها". في المقابل، يذكر الحديث المعروف بحديث الحَسن "دابة أبيض، بين البغل والحمار، في فخذيه جناحان يحفز بهما رجليه، يضع يده في منتهى طرفه". وتُظهر دراسة أدب المعراج كيف غالى الكتّاب في وصف هذه الناقة حتى أغدقوا عليها صفات لا نجدها في الأحاديث الموصوفة بالـصحيحة.

في منمنمة "جامع التواريخ"، يبدو البراق في شكل غريب يختلف عما سيؤول إليه في القرن الخامس عشر، فهو هنا ذو رأس آدمي أماميّ من مقدمته، وآخر خلفيّ يخرج من ذيله، وفي هذه الصورة ما يُذكّر بحديث الحسن: "يضع يده في منتهى طرفه". تتميّز هذه الناقة العجيبة بأربع قوائم وثماني أيد، وهي تمسك بيديها الأماميتين كتاباً مجلدا وبيديها الخلفيتين سيفاً مسلولاً وترساً. ينحني الرسول ويمد يمناه في اتجاه الملاك الذي يقترب منه حاملا إناء مذهباً، وتستعيد هذه الصورة حديثا معروفا ورد في "صحيح مسلم"، وفيه أن جبريل جاء إلى الرسول بإناء من خمر، وإناء من لبن، فاختار النبي اللبن، فقال له جبريل: "اخترت الفطرة". والإسلام، في التراث الإسلامي، "دين الفطرة"، وسلامة الفطرة لبّ هذا الدين.

ليست منمنمة "جامع التواريخ" الصورة الوحيدة التي وصلتنا من صور الإسراء والمعراج في القرن الرابع عشر. تحتفظ مكتبة توبكابي في اسطنبول بمجموعة من ثماني منمنمات استثنائية تجسد بعضاً من محطات الرسول في رحلته العجائبية. وقد نُزعت هذه الصور من المخطوط الأصلي الذي حواها في الأصل، وضمّت العام 1544 إلى مخطوط خاص بأبي فتح برهام ميرزا، شقيق الشاه طهماسب. تتجلّى بدايات الأسلوب الفارسي في هذه المجموعة التي أُنجزت في تبريز أو في بغداد، وقد نسبها البحّاثة إلى أحمد موسى، المصور الذي "رفع الحجاب عن وجه التصوير"، على ما جاء في "المقدمة حول رسّامي الأمس واليوم" التي كتبها عام 1544 دوست محمد، أمين مكتبة الأمير برهام ميرزا.

تجسّد هذه الرسوم اختمار أسلوب فن التصوير الإسلامي في الحقبة التي حكمت فيها سلالة الجلائريين العراق وغرب إيران وأذربيجان، إلا أنها تمثل نماذج تصويرية فريدة لا تتكرّر في نتاج المراحل اللاحقة. في هذه المجموعة، يطل الرسول مراراً محمولاً على كتفي جبريل الذي يطير به مخترقا الحجب. ويظهر البراق من غير راكب مرة واحدة في منمنمة يحضر فيها النبي متربعاً في الوسط، ممسكاً بيمناه كأس اللبن. وجه دابة الأنبياء أنثوي ملائكي أملس يتميز بأذنين عريضتين بلون أخضر، أما جسمها فأحمر أرجواني، ويتميّز بجناح قصير على شكل ريشة، مما يعيد إلى الذهن الوصف الذي جاء في حديث الحسن: "في فخذيه جناحان يحفز بهما رجليه".

معراج نامه
تتشكّل صورة الرسول على البراق في القرن الخامس عشر وتتحوّل نموذجاً تصويرياً ثابتاً يستعيده الرسامون إلى ما لا نهاية على مدى السنين. تحتفظ مكتبة باريس الوطنية بأهم مخطوط معروف لـ"معراج نامه"، وهو من نتاج هرات، وقد اقتناه مترجم "ألف ليلة وليلة" الشهير أنطوان غالان عام 1673 في اسطنبول. النص باللغة الإيغورية، وهو من تأليف الشاعر مير حيدر الذي جمع مجموعة كبيرة من الأخبار التي وردت في الروايات العربية وأعاد صياغتها.  يعود هذا المخطوط الاستثنائي إلى عام 1436، وهو مزيّن بمجموعة من إحدى وستين منمنمة تصوّر بأسلوب خلاب رحلة الرسول القدسية والآيات التي رآها في ما بين السماء والأرض. وترافق هذه الصور كتابات بالتركية والعربية والفارسية.

تشهد هذه المجموعة الكبيرة من المنمنمات للتطوّر الذي بلغه فن الكتاب الفارسي في ظل التيموريين، وهم سلالة على أمبراطورية شاسعة تشمل آسيا الوسطى، إيران، العراق، بلاد الشام، شرق الأناضول. في المنمنمة الأولى يظهر محمد مضطجعاً رافعاً يده في اتجاه جبريل الذي ينبئه بأن الله قد دعاه للصعود إلى السماء السابعة. تجسد المنمنمة الثانية النموذج الثابت حيث يظهر النبي طائرا فوق البراق بين الغيوم الذهبية يحوط به جمع من الملائكة. تتوالد الصور لتروي سيرة الإسراء كما طوّرها الأدب الديني الصوفي في العصور الوسطى. يحل محمد في القدس ويدخل المسجد الأقصى ويطير من ثمّ إلى السماء الأولى حيث يلتقي بآدم ثمّ بالديك الأبيض والملاك الذي نصفه من ثلج. في السماء الثانية يلتقي الرسول زكريا وابنه يحيى بعد مروره بملاك الموت وملاك الصلاة. في السماء الثالثة يحاور محمد الأنبياء يعقوب، يوسف، داوود، وسليمان، ثم يلتقي بالملاك ذي الرؤوس الستين. في السماء الرابعة، يجتمع بالملائكة التي تحييه وتعلن سيادته عليها. في السماء الخامسة، يمرّ بإسماعيل، إسحاق، هارون ولوط قبل أن يجد نفسه أمام بحر النار، ثم يبلغ السماء السادسة حيث ينتظره موسى، نوح وإدريس. يشرف الرسول أخيرا على السماء السابعة حيث يستقبله إبراهيم بتحيّة الإكبار والإجلال. يغيب البراق وجبريل مع بلوغ النبي مقام القربة حيث كانت له رؤية الحق بعين القلب. يُرفع الرسول إلى سدرة المنتهى ويلتقي بكبار الملائكة قبل أن يبلغ العرش الإلهي ويسجد أمام الخالق. يجد النبي نفسه أمام باب الجنة حيث ينتظره البراق ليحمله من جديد ويعبر به طبقات الفردوس بجناته المزهرة قبل أن يسير به نحو النار ليرى "ما أعدّ الله لأهلها من الزّقوم والحميم". تبدو جهنم سوداء مظلمة، وفيها يقبع، وسط النيران التي لا تنطفئ، البخلاء والجشعون، زارعو الفتنة والشقاق، العابدون المستكبرون، المدّاحون الكذبة، الزانيات الفاجرات، والملعونون الذين توانوا عن فعل الخير في حياتهم.

العصر الذهبي
تتكرّر صورة محمد على البراق إلى ما لا نهاية في فن الكتاب خلال القرن السادس عشر، في ظل صعود الصفويين والعثمانيين. في العالم الفارسي، تتصدّر صورة الرسول فوق البراق وسط الملائكة الكثير من نسخ "بستان" سعدي الشيرازي، فالشاعر يستهلّ مجموعته بقصيدة في مديح النبي، وفيها يذكر معجزة الأسراء: "ركب ليلة فجاوز الفلك، وبالتمكين والجاه فاق الملَك/ وساق بحرارة في تيه القربة، بحيث تخلّف عنه جبريل عند السدرة". ولا تخلو أهم نسخ خماسية نظامي الكنجوي من صور مماثلة، وقد وصف الشاعر معراج الرسول وعجز الملائكة عن التقدّم معه ومرافقته إلى العلى في "مخزن الأسرار"، وهو الباب الأول من كتابه، واستعاد ذكر رحلة نبي في مواضع عدّة من ديوانه، فتوقّف في "خسرو وشيرين" أمام وصول النبي إلى هودج الديباج، وتغنّى في "ليلى ومجنون" باجتيازه الحجب، وأكد في "الصور السبع" دخوله مقام النور بدون حجاب. في كل هذه المواقف، تبدو صورة البراق ثابتة: وهي دابة لها وجه إنسان ملائكي، زينتها تاج عظيم وعقد عريض يفصل بين عنقها البشري وجسمها البهيمي.

في العالم العثماني، نقع كذلك على عديد من المنمنمات التي تصور معراج الرسول، أبرزها تلك التي تعود إلى مخطوط "جامع سير النبي" الذي أُنجز بطلب من السلطان مراد الثالث. تشكّل هذه المجموعة سلسلة من المنمنمات تصور محطات رحلة الرسول بأسلوب عثماني صرف، وفيها يظهر البراق في صورته التقليدية، إلا أن ذنبه يتحول ذيل طاووس، ولا نعرف إن كان لهذا التحوّل سند أدبي أم أنه من ابتكار أهل الصور. في المقابل، تتكرر صورة النبي على البراق في الكثير من المنمنمات الهندية التي تمعن في تزيين الدابة العجيبة، وفي هذه الصور ينبت للبرّاق جناحان مما يعيد إلى الذهن الوصف الأدبي الذي أكّد مراراً هذه الصفة.

في مجمل هذه المنمنمات، يبقى النبي ثابتاً على البراق، وفي ثباته تأكيد أن الإسراء كان بجسده الشريف، وليس برؤيا، كما أكّد الطبري في تفسيره: "وبعد، فإن الله إنما أخبر في كتابه أنه أسرى بعبده، ولم يخبرنا بأنه أسرى بروح عبده"، "ولو كان الإسراء بروحه لم تكن الروح محمولة على البراق، إذ كانت الدواب لا تحمل إلا الأجساد".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها