الثلاثاء 2021/03/16

آخر تحديث: 17:54 (بيروت)

ألعاب الجوع

الثلاثاء 2021/03/16
ألعاب الجوع
معركة الزيت
increase حجم الخط decrease
"لماذا لا يشوونها تلك البطاطا اللعينة؟!".. السؤال الاستنكاري لأحد الأصدقاء خلال محادثة في "واتساب" حول فيديوهات تناتُش عبوات الزيت في المتاجر. بدا التساؤل، على بساطته، وجيهاً، وجاهة المزحة السوداء.. لولا أن القصة صارت أكثر تعقيداً بكثير من مظاهر الفقر والجوع في وادي الأزمات اللبنانية البلا قعر. والمدعوم من السلع الغذائية، صار أكثر من لزوم بقاء، يتدافع في سبيله اللبنانيون، وبعضهم يشهر مسدساً، والبعض الآخر لا يدّخر قبضة الملاكم.

جريمة السوبرماركت ستصبح قريباً محطة إخبارية، صادمة دائماً، لكنها ستفقد عنصر المفاجأة، شأنها شأن جرائم "يعرف أكثر من اللازم" أو "معارضته صارت أخطر من المسموح به". سنسمع عن طلقات نارية في أروقة الزيت السكر والأرز، وبكيس حليب في اليد قرب موظفة الصندوق. سنفتتح قريباً الموسم الرسمي الأول من "ألعاب الجوع"، وهذه الحوادث ليست سوى بروفات لمشهدية الثلاثية الروائية الشهيرة.

الأرجح ألا تقوم، في المدى المنظور في لبنان، انتفاضة جياع حقيقية. فمقوماتها المُجدية، أو ما يؤهلها لإحراز أي نتائج والمراكمة عليها، لا يتوافر منه الآن إلا الهوان والغضب. الشحّ يطاول عمق المأساة نفسها. لكننا سنرى النسخة المنظّمة منها. سنرى عنف الجوع، قتلاه بالرصاص والعصي ودَوس الأقدام. سنرى غاضبيه، لصوصه، بلطجيته، وهؤلاء سيصبحون فئة بذاتها، غير مُرتزقة الأحزاب وبلطجية المصارف. سنرى المتنافسين في حلبة الجوع للفوز بالجائزة اللحظية، ما تيسّر من السلع الغذائية أو الاستهلاكية بسعر مدعوم، وربما إعاشات مجانية تتصدّق علينا بها هذه الدولة أو تلك. لقد بدأ اللاعبون فعلاً بسرقة أغطية الصرف الصحي، لبيعها في سوق الخردة. ثم تُستكمل الألعاب حالما تنفد الغنائم.

عصابة السلطة، رغم تجاذبات داخلية تشلّ بعضها، وضغط من الشارع والخارج، واستعصائها المافيوي أمام معضلة مكافحة الفساد في مقابل المساعدات،.. رغم مواتها تقصيراً وإهمالاً، وسفالةً حزبية وطائفية، وقذارةً مصلحية،... السلطة لا تفتقر إلى سلطتها. هي الحَكَم وموزِّعة الكؤوس.. والأكياس. ألعاب الجوع في السوبرماركت، وأمام الأفران ومحطات البنزين، وعلى أبواب الصيدليات والمستشفيات، تؤكد طغمة الحُكم ومرجعيته البائسة، وأن أقطابه هم العقاب والمُعاقِبون على كل بادرة تمرد سابقة، وحتى على استسلام دام عقوداً ويدفع ثمنه الجميع، كما أنهم حاضنو أيتام الثورات الآفلة.. شرط أن يصفّي بعضهم البعض الآخر، والبقاء للأشرس.

هذه السلطة هي مديرة مسرح الترفيه الجديد، ترفيه الديستوبيا، تلفزيون الواقع المعكوس إذ صار الواقع مصوراً بكاميرات الناس، يُبث للناس، فيُدمنونه في يومياتهم وشاشاتهم، فيحاصرهم ولا فكاك لهم منه. تسلية البؤس، أفيون الدموع، وتجزية الوقت الملعون بالحسرة المجانية، المرهِقة والتنفيسية في آن، كالأفلام الهندية الشعبية. ولا بأس إن صدّرنا أفلامنا الرخيصة العفوية للخارج، علّنا نحظى بممولين للمُصارعين حتى حتفهم... سوى أن الخارج ملّ الإثارة اللبنانية.  

ومع ذلك، في سلسلة ألعاب الجوع، تقول السلطة: أنا السبب والحل أنا. عودوا إلى شبكة الأمان الوحيدة الممكنة، مهما تمزقت. نروّض الجوع معاً، نتبناه ونتعايش، وبدلاً من الطموح، نحلم بالشبع وننام.

وللسلطة ألعاب جوعها في ما بينها أيضاً. تتصارع حتى الموت، موت أتباعها دونها، والرابح يفوز لمقاطعته ببقايا سبل العيش: رزم مساعدات ممهورة بأعلام أجنبية، للاستهلاك أو البيع في السوق السوداء، لا فرق. دولارات، أو أقرب ما يكون إلى سعر الصرف الرحيم. لقاحات كورونا، مولدات كهرباء تعمل بضع ساعات إضافية...

لماذا لا يشوونها تلك البطاطا اللعينة؟ الإجابة ربما تكمن في أساطير "ثيسيوس" ملك أثينا التي ألهمت الرواية الأم، وألعاب جوعنا لا تنقصها المفارقات الملحمية، يزيدها الزيت –موضوع النزاع الأول– سحراً ودهشة قاتمة.

الزيت مطوَّب، شافٍ، مبارك في ديانات وطقوس ووثنيات. أساس الطهي بلا لحم، وحده لحمك رخيص، فشدّ الحزام على وسطك، واخرج إلى الساحة، واجلب عبوة، أو مُت محاولاً. والزيت أحد أطلال الطبقة الوسطى ووعيها. قديماً، كانت السَّمنة والزبدة للمقتدرين، ثم صار "الصحي" موضة الرشاقة ما قبل الأبوكاليبس، حينما كان الانتقاء بين دوار الشمس والذرة والكانولا... واليوم، أي زيت أرخص، أي محلول أصفر لزج، لن يظفر به إلا الصامد حتى نهاية المعركة.

الحمامة طارت إلى سفينة نوح، وفي منقارها غصن زيتون كعلامة على قرب اليابسة وتصالح الرب مع الإنسان. والأرباب الآن حانقون على الناس الذين أفشلوهم، عصوا وتكبّروا واستماتوا على الدولار ولم يبيعوا ما في حوزتهم لإنقاذ العملة الوطنية، بل هرعوا أولاً لسحب دولاراتهم من المصارف ليخبئوها في المنازل، وبعضهم ما زالت تسول له نفسه شرب "النيسكافيه" في الصباح. لا بد من استرضاء السماء التي لا يرويها إلا الدم المسكوب على رفوف الدكاكين المسنّنة أقفالها. فلتبدأ ألعاب الجوع!
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها